البسمة المرجوة على شفتي المتلقي لحالة إبداعية ناتجة عن التصوير الواقعي بفكر معرفي، أظهرت التباين بين إرادة الأديب الساخرة وإرادة المتلقي الجادة، وفق مبدأ المتناقضات بطريقة سردية مميزة.

من هنا يمكن القول إن الأدب الساخر نتاج كاتب اكتفى من الواقع بكل ما فيه، وحاول توظيف أفكاره المعرفية المشبعة من هذا الواقع، لإيصال الخلاصة بطريقة نقدية إبداعية ساخرة تتجاوز الخطوط الحمراء للسرد الأدبي، فـ"النكت" الآن مرايا كما أوضح الشاعر والصحفي "محمد حسين"، مضيفاً لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 14 آذار 2015: «ثمة من يقول إن الأدب والفنون بوجه عام هي مرآة للواقع بجماله وقبحه، ولا تشذ عن هذه القاعدة المدارس الأدبية والفنية التي خرجت من عباءة الواقعية إلى فضاءات المدارس الأخرى، كالواقعية السحرية أو السوريالية، فجميعها لها جذرها الواقعي الذي يربطها بالحياة والناس، بالنهاية الأدب حامل ثقافي لمحمول معرفي لا يكتمل إلا بوصوله إلى المتلقي المتذوق، وبصرف النظر عن كونه رسالة موجهة لشريحة من القراء، إلا أن القيمة المضافة لأي عمل أدبي هي في تكريس قيم الجمال والحب والحياة، ناهيك عن متعة القراءة التي لا يمكن الاستغناء عنها.

أرى أن المقال الساخر هو الأقدر على إيصال الفكرة الواضحة، لأنه يخاطب أوسع شريحة، إضافة إلى أن مقومات المقال وصفية آنية، تخاطب زمناً موجوداً، بينما القصة الساخرة يجب أن تصلح لكل زمان ومكان

والأدب الساخر كغيره من الوسائل الأدبية الإبداعية هو ابن الحياة والناس، ولا يمكن فصله عنهم بأي حال من الأحوال، نظراً لالتصاقه بهمومهم ومشكلاتهم الحياتية والوجودية، في قالب أدبي قوامه السخرية.

الشاعر محمد حسين

ولأنه مرآة حاول الأدباء ويحاولون عبر إبداعاتهم نقل الواقع بعجره وبجره بقالب كوميدي أو تراجيكوميدي، ولسان حالهم يقول كما قال "تشيخوف" الأب الحقيقي للقصة القصيرة الساخرة في الأدب العالمي: "ما أردت أن أقوله لكم؛ أظهروا إلى أنفسكم ما أشد بلاهتكم"، ومن المفيد التذكير في هذا الإطار أن "النكات" من أهم أساليب التعبير الساخرة في التراث اللا مادي للشعوب، وتراثنا العربي غني بالنوادر العابرة للأجيال والعصور والثقافات، والأدباء نهلوا وينهلون من هذا المعين الذي لا ينضب في صناعة كتبهم وقصصهم الساخرة، وكذلك لا بد من الإشارة إلى أن الكاريكاتير هو التجلي الأبرز للسخرية في الفنون الجميلة، الذي استخدمته وسائل الإعلام الورقية لإيصال رسائلها المعرفية في قالب كوميدي أقرب إلى عقل المتلقي من المطولات الإنشائية الكلاسيكية».

ويتابع الشاعر "محمد": «نحن في بلدنا الذي يمر بظروف سيئة طالت البشر والحجر، لا يمكننا إغفال الكوميديا السوداء التي ظهرت مثل "نكات" أو زوايا صحفية ساخرة أو مسلسلات أو مسرحيات مضحكة ومبكية في نفس الوقت، تعكس الوجع الإنساني والقلق الوجودي الذي يعصف بنا كمجتمع ينزف ووطن يستصرخ الضمائر فهل من مجيب؟؟!!

الشاعر قيس حسين

وأعتقد أن الأدب الساخر يقوم على مبدأ المتناقضات "الأبيض والأسود" أو الكونتراست، فالمفارقات هنا هي الحامل الحقيقي للسخرية، وكلما توسعت الهوة بين الاثنين ازدادت شحنة الكوميديا، ولكن هذا لا يكتمل إلا بالموهبة وحجم الطاقة الإبداعية الممزوجة بخفة الدم للكاتب، المترافقة مع المهارة اللغوية للتلاعب بالألفاظ والمعاني الكثيرة التي تشتهر بها لغتنا العربية، ويمكن للأديب أو الصحفي الساخر الغزل على طباق المعاني، لتقديم منتوجه الساخر مع التشديد على أن التلقائية والعفوية هي السمة الأبرز لهذا الأدب الساخر، وتجاوزها يوقعنا في مطب الغلاظة الممزوجة البعيدة كل البعد عن الأدب، التي يمكن وصفها أحياناً بقلة الأدب».

وما بين القصة الساخرة والمقالة الساخرة فرق، عنه قال الشاعر "محمد": «في الأدب والفنون بوجه عام الافتعال والمباشرة قد تقتل أية فكرة أو مضمون موجود في النص أو المقالة، مع الإشارة إلى أن الغرض الأدبي يختلف من صنف أدبي إلى آخر، فما تقوله القصة القصيرة يختلف جذرياً عما تقوله المقالة بالشكل فقط، فالمضمون قد يكون واحداً، ولكن بقالبين مختلفين وإن كانت القصة ذات تأثير تراكمي بعيد المدى، وتحتمل أكثر من قراءة حسب طبيعة مبدعها ومدى براعته، وهذا على عكس المقالة التي من المفترض أن يكون تأثيرها واضحاً ومباشراً آنياً، ولذلك علينا التفريق بين الرسالة وحامل الرسالة في الأدب والحياة».

فحين لا يحرك الأدب الأفكار يفقد أهميته، بحسب قول الشاعر "قيس حسين" حيث قال: «إن لم يحمل الأدب الساخر بعداً فكرياً فإنه يغدو أدب تهريج، والأدب حتى المغرق بتخيلاته ورموزه وسورياليته إن هو لم يستند إلى الواقع يتحول إلى هلوسات، إذاً الأدب الساخر هو ابن الواقع، وأشد التصاقاً به من غيره، فحين يمتلك الأدب الساخر القدرة على تحريك المشاعر وتوليد الأفكار ويحتمل إسقاطات على مستويات مختلفة إضافة إلى السلاسة والقرب من نفسية المتلقي ويحتمل التأويل ويرصد حراكاً اجتماعياً أو فكرياً أو سياسياً، فلا بد حينها أن يحقق رسالته.

وبالعموم وفي كثير من المنتج الإبداعي ينطلق الأديب من الخاص، ولكن ذلك الخاص يغدو بلا قيمة إن لم يحمل العام بين طياته، وهذا ينطبق على الأدب عموماً وليس على الأدب الساخر فقط، والفكرة الواضحة يوصلها المقال أكثر من القصة، لكن عمق التأثير يفترض أن تحمله القصة لا المقال، ففي المقال توصيف وسرد وإثبات، أما القصة فتحمل التخيل والإسقاط والعمق.

والأدب الساخر بألوانه من شعر وقصة ومقال ورواية، يمكنه أن يؤدي الدور الكبير في الأدب والمجتمع، وهو الأجدر بحمل صفة السهل الممتنع، فكثير مما يسمى الأدب الساخر إنما يقع في مطب المبالغة والتهريج، وللتأكيد هنا الأدب الساخر لعب دوراً مهماً في الحياة الأدبية، وحمل تأثيرات مهمة، وجذب من القراء حتى ممن لا تستهويهم قراءة الأدب، فهو مغر وجاذب حين يمتلك عناصر إبداعه».

الأديب "علي ديبة" كاتب القصة القصيرة الساخرة والمقال الساخر، ومنها على سبيل المثال "حمير المتنبي"، و"طرزانات السياسة"، أكد بدايةً أن للمقال وظائفه المباشرة وللقصة أدواتها المختلفة، وفي الاثنين معاً يجتمع جمهور خاص أكثر اقتراباً من باقي فنون السرد، مضيفاً: «الأدب الساخر مادة حية، وهو الحلقة الموجودة بين الواقع والمرتجى منه، ومن أهم مقوماته توافر المادة التي تقبل معالجة ساخرة، فقانون العيب للسادات هو العيب ذاته، وقس على هذا الكثير، وهنا الكاتب سياسي وانتمائي بامتياز».

ويتابع الأديب "علي ديبة" بتوضيح أيهما أقدر على إيصال الفكرة الواضحة القصة الساخرة أم المقال الساخر، فيقول: «أرى أن المقال الساخر هو الأقدر على إيصال الفكرة الواضحة، لأنه يخاطب أوسع شريحة، إضافة إلى أن مقومات المقال وصفية آنية، تخاطب زمناً موجوداً، بينما القصة الساخرة يجب أن تصلح لكل زمان ومكان».