حظي الشعر الحديث بتجربة مبدعة عاشها في كنف شعرائه الأوائل، واليوم في أوائل القرن الحادي والعشرين تعيش الصورة في الشعر الحديث تحديات شعرائها الشباب للتجديد والإبداع والابتكار، ولـ"طرطوس" وشعرائها نصيب لا بأس به.

نقف في حديثنا هذا بين خلق الصورة في الشعر الحديث وفلسفة تكوينها، وبين مقدرة شعرائهاعلى الإبداع فيها وتوظيفها، في ظل التجربة السورية عموماً والمحلية في "طرطوس"، آخذين بعين الاعتبار تقارب التجارب السورية، من هنا نبدأ ببعض الأسس النظرية التي تستند إليها فلسفة الصورة الشعرية الحديثة التي تشكل الإطار العام لفهم الصورة الشعرية وتركيبها الفني، والتي زودنا بها الدكتور "محمد معلى حسن" رئيس قسم الشعر الحديث في "جامعة تشرين"، في لقاء مع مدونة وطن "eSyria"، بتاريخ 20 أيار 2014، حيث يقول: «نبدأ من الاستكشاف غير المتوقع الذي يثير الغرابة والدهشة، بمعنى أن الصورة تستكشف شيئاً بمساعدة شيء آخر، والمهم فيها هو ذلك الاستكشاف ذاته، أي معرفة غير المعروف لا مزيداً من المعرفة...، ثم هناك الصورة الخصبة القادرة على الإشعاع في كل اتجاه، التي تسمح للشاعر باستكناه المزيد من المعاني كلما أوغل بحسه معها، وفي أساس آخر نلاحظ خلطاً من بعض النقاد بين الصورة المرئية والصورة الحسية، لا شك هنا أن المرئي حسي، لكن الصورة الحسية ليست دائماً هي الصورة المرئية، لذلك يجب حين نتحدث عن تشكيل الصورة الشعرية أن نفرق بين التفكير الحسي والرؤية البصرية للشيء المكاني، ففي الصورة الحديثة يغلب التفكير الحسي على الرؤية البصرية...».

لكن هناك تجارب جيدة في العصر الحديث في الشعر العمودي، ويجب التوقف عندها ملياً، مثل الشاعر "عيسى حبيب"، والدكتور "محمد معلى حسن"، والأستاذ "محي الدين محمد"؛ وهذه أعتبرها أنضج التجارب في محافظة "طرطوس"، أما في القرن الماضي ومنتصفه فلدينا الشعراء: "حامد حسن، نديم محمد، عدنان خضر، إبراهيم عبد الهادي، محمود حسن، حنا الطيار". وهؤلاء من مواليد النصف الأول وما قبل من القرن العشرين

يتابع في نفس السياق: «تقوم الصورة في الشعر الحديث على المقاربة بين شيئين متباعدين في الزمان والمكان، ولا يوجد بينهما وجه شبه، ولا تقوم على المقارنة بين شيئين يجمعهما وجه شبه. كذلك نجد الصورة الشعرية الحديثة رمزاً مصدره اللا شعور، لأن الرمز أكثر شعبية من الحقيقة الواقعة، والتفاهم بين الناس بالرمز شيء مألوف. وأخيراً، التكثيف الزماني والمكاني في انتخاب مفردات الصورة الشعرية، حيث تتجمع عناصر متباعدة غاية التباعد، لكن سرعان ما تتآلف في إطار شعوري واحد.

الدكتور "محمد معلى حسن"

إذا كان الشعراء قديماً وحديثاً توزعوا بين ضفتين إحداهما تريد ملاءمة فنها وفق مكونات العالم الخارجي، وأخرى تريد ترتيب مكونات ذلك العالم بما يتلاءم مع مشاعرها ووجدانها، فإن الشاعر كما يقال يلون الأشياء بدمه، وهذا ما يعرف كما يقول الدكتور "معلّى" بالتكامل بين الفنان والطبيعة، وهذا هو الموقف الذي تقوم عليه فلسفة "الصورة" في شعرنا الحديث، فالصورة تزاوج بين عالم الأفكار والواقع، لذا فهي غير واقعية دائماً وإن كانت منتزعة من الواقع، لأن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع».

وللشاعر الصحفي والناقد الأدبي "علام عبد الهادي" رأيه في استحضار الشعر الحديث للصورة الشعرية وإبداعها، حيث يقول: «أهم ما في الحداثة أنها أعادت استحضار الصورة، وجعلت من الصورة عاملاً أساسياً لإطلاق صفة شعر على النص الحديث، بمعنى أننا لنقول عن نص نثري معاصر إنه شعر علينا أن نلحظ الصورة فيه بما لها من دلالات، والصورة مرتبطة بمخيلة الكاتب، فالكاتب عندما يعيش مخاض السيالة الشعرية التي تأتيه في لحظة ما وفي وقت ما يحمل هذه الأحاسيس بمعانٍ، تأتي هذه المعاني في سياق صورة، وموضوع إغناء النص بالصورة وفقر النص من الصور عائد إلى طبيعة الكاتب والشاعر، كم هو موغل في فهم الشعر؟ كم هو مطلع على التاريخ والتراث والحاضر والمستقبل؟ حتى لا يقع في فخ التكرار أو الاستنساخ والتقليد، وكل هذه الأمور مرتبطة بالمكونات الذاتية للشاعر».

الشاعر "محي الدين محمد"

يفصل بعض من تحدثنا إليهم بين السنوات القليلة التي مضت من هذا القرن، وبين تجربة الشعر الحديث في منتصف القرن الماضي وأواخره، وعن ذلك يتحدث الصحفي والشاعر والناقد الأدبي "عبد الهادي" بالقول: «إن جل ما يقال اليوم في الشعر الحديث بعيد عن أصل الفن وأصل العلم في الشعر بوصفه فناً وعلماً، لأن شعراءنا لا يقرؤون الشعر قراءة تحليلية علمية تؤدي بالشاعر الى فهم طبيعة الجنس الأدبي الذي يحاول الكتابة فيه، وهذا الغموض جعل من موضوع الصورة موضوعاً ملتبساً، ويتجلى الالتباس في فقر النصوص الأدبية ومعاناتها في توظيف الصورة، ومن خلال ملامستي لتجارب شعرية عديدة لاحظت أن حال محافظة "طرطوس" كغيرها من بقية المناطق السورية، هناك جهل حقيقي في ماهية الشعر الحديث وكنهه وطبيعته، بمعنى أن هناك معرفة سطحية بالشعر، وما يقال على المنابر الثقافية يأتي بطريقة عفوية وعلى السليقة، لا يعبر عن عمق معرفة لدى كثيرين من كتاب الشعر، وأكثر من ذلك فإن الكثيرين ممن يتصدرون المنابر الثقافية في "طرطوس" يستنسخون من غيرهم».

يتابع: «لكن هناك تجارب جيدة في العصر الحديث في الشعر العمودي، ويجب التوقف عندها ملياً، مثل الشاعر "عيسى حبيب"، والدكتور "محمد معلى حسن"، والأستاذ "محي الدين محمد"؛ وهذه أعتبرها أنضج التجارب في محافظة "طرطوس"، أما في القرن الماضي ومنتصفه فلدينا الشعراء: "حامد حسن، نديم محمد، عدنان خضر، إبراهيم عبد الهادي، محمود حسن، حنا الطيار". وهؤلاء من مواليد النصف الأول وما قبل من القرن العشرين».

وأشار كثيرون من النقاد وشعراء الحداثة في "طرطوس" إلى تجربة الشاعر الأستاذ "محي الدين محمد" بوصفها تجربة ناضجة تستحق الوقوف عندها، وبدورنا التقينا الأستاذ "محي الدين" لمعرفة رأيه بالشعر الحديث وشعرائه في "طرطوس"، حيث قال: «في الحديث عن تجربة الشعر في "طرطوس" تحديداً نقف عند أسماء سبقت في هذا المجال ومنهم الشاعر "نديم محمد" الذي استطاع أن يبتكر صورة جديدة بلغة موفقة وعبر مخيلة تحتمل التشكيل في هذه الصورة معتمداً البلاغة العربية بقالبها التراثي، لكنه طورها إلى ما فيه إبداع شفاف ورائع، كذلك كان هناك الشاعر "حامد حسن" الذي استطاع أن يلعب بتشكيل الصورة لعباً فنياً فيه عرق درامي مشجع ومقوٍّ لعناصر الشعر، وأذكر له بيتين من الشعر قال فيهما:

"هذي الأضامين من عطر ومن وهج.... أطعمتها القلب والعينين والهدبا

لي ألف درب إلى جناتها ويدي.... تغامز الكرز المسفوح والعنبا".

أما فيما يتعلق بشعراء الحداثة الذين لجؤوا إلى استخدام قصيدة "النثر والتفعيلة"، فلم يستطيعوا أن يرتقوا بهذه الصورة إلى مستوى الحداثة عند "نديم محمد" وغيره من الشعراء الكلاسيكيين، لكنني أرى التراجع في الشعر الحديث ليس في "طرطوس" وحدها، وإنما على مستوى الوطن العربي عموماً هناك تراجع على مستوى البناء والقضية والمواضيع، لأن العرب لا يقرؤون كثيراً، وفي "طرطوس" هناك تجارب شعرية حديثة وشعراء حداثة مستوياتهم أفضل بكثير من التجارب السورية الموجودة حديثاً، حيث هناك إيجابية وعمل جاد في تطوير الصورة الشعرية الحديثة وبنائية النص، والأسماء كثيرة من شعراء "طرطوس" الشباب».