بدأت الحكاية على بعد خطوات من شاطئ البحر القديم، لتنمو وتثمر في بقاع سورية وعالمية متعددة فنوناً بصرية وتشكيليةً يعترف العالم الفني بفرادتها وتميزها؛ مشكّلةً ظاهرة مختلفة في محترف الفن السوري.

يعترف الفنان التشكيلي "أسامة معلا" في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 28 كانون الثاني 2014، بأن أهم ناقدٍ استطاع قراءة لوحاته هو "أمه"، فأم "طلال" (تمرة فرج) المولودة في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي "فنانة" فطرية من غير لوحة، أما والده "جودت" (مواليد 1924) فقد كان "شاعراً" من غير قصيدة، وقد استطاعا معاً رغم تنقلاتهما التي ارتبطت بعمل الأب في وزارة الصحة أولاً، ثم مع إحدى شركات التنقيب عن النفط ثانياً، أن يكوّنا عائلةً ترك ثراؤها البصري والتشكيلي بعد سنوات طويلة من الحضور المختلف في الحياة الإبداعية السورية بصمةً، تستمر إلى اليوم بتوليد الأسئلة الإبداعية عنها كظاهرة حاضرة سواء كمبدعين بشكل فردي أم كمجموع احترافي ينتمي إلى جذر عائلي واحد.

احتضن بيتنا في "الرقة" أسماء لامعة في تاريخ الفن والإبداع السوري، منها: "كوكب حمزة" الملحن المشهور، الروائي والشاعر الراحل "ممدوح عدوان"، الروائي "حيدر حيدر"، وآخرون، فكان يجتمع في ذلك البيت الكبير المخرج والمؤلف والمسرحي قبل عرض أي عمل في المدينة، و"طلال" ـالشقيق الأكبرـ كان ملهماً وهو السبب الرئيسي في حكاية الفن في بيتنا، فكان يضع برنامجاً للذهاب إلى السينما تبعاً لنوعية الأفلام المعروضة

ولد الشقيق الأكبر "طلال" في "اللاذقية"، تلاه "أحمد" في "بانياس"، ثم "أسامة" وبقية الأشقاء في "الرقة"، وعددهم جميعاً ما بين صبايا وشباب ثمانية، هذا التنقل الكبير ترك كما يقول الكاتب "حسين بن حمزة" في مقال له بصحيفة "الأخبار" اللبنانية قبل أعوام "أثرهُ في الرؤية البصرية الفنية، وشكل مخزوناً متنوعاً بين لون وملمس الطمي الفراتي إلى الأزرق البحري"، الأمر الذي ترك لدى العائلة "مخزوناً" بصرياً متنوعاً تم إثراؤه لاحقاً بالدراسات الأكاديمية لكل منهم، وأولهم الشقيق الأكبر "طلال" الذي سبقهم إلى أمواج هذا البحر المتلاطم وكان العراب الرئيس لهذه الرحلة.

الفنان أحمد معلا

على أن هذا ما كان ليتم لولا الجو الذي بدأ مع الوالد الهادئ الطباع في البيت الكبير في "الرقة"، المدينة التي "تجعل عواصفها الرعدية والغبارية القيامةَ مسألةً يومية في حياة الناس"؛ كما وصفها الفنان "أحمد معلا"، الأب "جودت" القادم من قرية منسية في الجبال، أتقنَ الفرنسية مبكراً بجهد شخصي مكّنه من تبوؤ موقع المترجم في الشركة النفطية الفرنسية، ومكّنه كذلك من قراءة مختلف أنواع الأدب والإبداع المكتوب بالفرنسية في زمن اعتبر فيه فك الخط امتيازاً كبيراً لصاحبه، يقول الفنان "أسامة معلا" عن تلك الفترة: «احتضن بيتنا في "الرقة" أسماء لامعة في تاريخ الفن والإبداع السوري، منها: "كوكب حمزة" الملحن المشهور، الروائي والشاعر الراحل "ممدوح عدوان"، الروائي "حيدر حيدر"، وآخرون، فكان يجتمع في ذلك البيت الكبير المخرج والمؤلف والمسرحي قبل عرض أي عمل في المدينة، و"طلال" ـالشقيق الأكبرـ كان ملهماً وهو السبب الرئيسي في حكاية الفن في بيتنا، فكان يضع برنامجاً للذهاب إلى السينما تبعاً لنوعية الأفلام المعروضة».

وفي أغلب افتتاح معارضهم في "سورية" وخارجها كانت الأم حاضرة، تحضر "أم طلال" بكامل أبهتها القروية محدقةً في عين اللوحات كأيّ ناقد فني، وتتعدى العلاقة التي تربط الأم مع أبنائها مرتبة الأمومة إلى سوية النقد والتوجيه، يقول الفنان "طلال معلا" في حديث مع مدونة وطن: «لا تغير السنون التي نافت الستين، رابطة الطفولة التي تجمعني ولا تفصلني عن وجودها، مهما اختلفت تجليات هذا الوجود، لكونها تجمع الجميل الحقيقي الذي عرّفته لنا منذ بداية وعينا حين كانت تردد "الجميل من يحيا"، تحت هذا المضمون باتساعه يكون حضورها في معارضي أو معارض غيري تأكيداً لتقاسمها معنا ما زرعته من صلة الإبداع بالحياة وبالإنسان الدلالة الأساسية لنبرة ومركب الحياة، بالتأكيد إن حضورها يزيد الجمال جمالاً والحقيقة تأكيداً».

الفنان طلال معلا

في وفائهم لتاريخهم الفني والأكاديمي يعمل الإخوة "معلا" على بناء منجز بصري وتشكيلي، يستمد استمراره من استقلالية التجربة الفردية لكل منهم، يتحدث النحات السوري "وليد محمود" إلى مدونة وطن، فيقول: «لا تكاد تلحظ أي تقاطع بين تجارب الإخوة "معلا" الفنية، فـ "أحمد" خريج "المدرسة الوطنية للفنون الزخرفية" في باريس العام 1987، والمدرس بكلية الفنون الجميلة في جامعة "دمشق" له تجربته البصرية المستندة إلى الغرافيك والخط العربي واللوحات الكبيرة ذات الكتل البشرية الضخمة، وتختلف عن تجربة "طلال" خريج الأدب العربي ومدرسة "روما" الذي ركز فنياً على خلق استمرارية حضارية "سوريّة" في ألوانه ووجوهه التي حملت عناوين نصف معارضه تقريباً، ويختلف كلاهما عن "أسامة" الذي تنتمي تجربته إلى التجريدية اللونية، وإلى استبطان نفسي معمق في لعبة المجتمع، في حين شقّ "علي" آخر العنقود الفني عنهم طريقه منفرداً فاشتغل بنحت الخشب».

الدكتور "عجاج سليم"، تحدث عن تفسير الظاهرة من جهته فقال: «إنه يصعب اعتبار أن هناك ظاهرة فنية هنا، كل فرد فيهم مبدع، هذا أمرٌ لا يختلف عليه، ولكن الكثيرين لا يتفقون في تقييم إبداعهم الفني، إيجاباً أو سلباً، "أحمد" يتنقل بين مفردات التشكيل محاولاً تشكيل هوية خاصة به، ولما يستقر على واحدة بعد، "طلال" هو الآخر مجتهد، ولكنه متأثر بشكل ما بمفردات الرسم الإيطالي، أسامة لا أعرف الكثير عنه، إن فكرة تشكيل مجموعة أشخاص لظاهرة فنية تخضع إلى شروط قد لا تتوافر هنا لأسباب كثيرة أبرزها اختلاف التجربة لدى كل فرد منهم، فلا شيء مشترك فيما بينهم، باستثناء الجذر العائلي المشترك، تجاربهم لا تتقاطع أبداً، لكل منهم محاولته في صياغة هوية خاصة به».

الفنان أسامة معلا

لم تكن تجربة آل "معلا" تستند إلى موروث ومنجز إبداعي مسبق، من هنا تفردها واختلافها وقدرتها على الحياة خارج الأطر النمطية لمفهوم "العائلة الفنية"، فهي ظاهرة تحيا حتى اليوم في ترب مختلفة، يجمعها الاسم والإبداع، ويحميها بنفس الوقت من التكرار والتقليد والوقوع في فخ الاستسهال الفني والتشكيلي والإبداعي عموماً.