ارتبطت الأغنية التراثية في طرطوس بشكل خاص بالحياة المعيشية اليومية والزراعية وحتى المهنية لأبناء الريف، وباتت جزءاً من أفراح حياتهم أو أحزانها يعيشونها بكامل تفاصيلها منظمين لها فروقات غنائية على وقع ألحان الأغاني التراثية المعروفة كالدلعونة واللالا والميجانا، ونرى هذا التوظيف للمفردات الريفية وباللهجة المحكية موسيقياً ولحنياً، تبسيطاً للجهد وتخفيفاً للعناء وتحفيزاً للعطاء.

فكانت الأم الراغبة باختيار زوجة لولدها تراقب الشابات عند عودتهم من العمل الزراعي وتقول عند اختيارها لإحداهن: "علاله ولاله ولاله بنية وزايد جماله" على وقع أغنية اللاله مثلاً، وتختار المفردات وتوظفها لوصف حضور تلك الفتاة والتغني بجمالها وما أحضرت معها من أغصان عطرية لزوم إشعالها بالتنور أو نباتات عشبية غذائية لزوم طهيها، وكيف تبدو منهكة أو قوية، وكأنها تتحدث مع ولدها بلهجتها المحكية البسيطة، فتقول: "اسمع يا ابني ودير بالك على الكلام وخود النصيحة النافعة بأوقاتها، وإياك تستعجل أو يغرك جمال مبين على بنت وتسحرك طلاتها، الحيّات ناعم ملمسها لكن أكيد لو أمنتها بتقتلك بسماتها، والناس أجناس بهدنيا وستك يا ابني حافظة حكاياتها، بدك عروس وصار لازمك من هالدنيا خبراتها، دور وفتش واسأل كتير وشوف البنت مع أمها وأخواتها، فالجرة اذا بتطبها على تمها بتطلع لأمها البنت أو عماتها".

وكذلك ارتبطت هذه الأغاني بالفرح والنخوة والرجولة التي كان يظهرها الشباب في الأعراس وحلقات الدبكة، ومنها حين نظمت شابة من ريف مدينة "بانياس" فروقة قالت فيها: "نزل على المرسح ومسكني حدُه وشلحني الخاتم الله لا يرده، والله تعمل متل ما بده جكارة بلي ما بحبونا"، فرد لها الشاب "على دلالك أه يا مدلعني غنجك ودلالك بالله شو بيعني شغل محبة وله ملعنة تمسك قبالي وتغمز بعيونا"

وكان يوجد في الموروث الغنائي الشعبي بحسب حديث الباحث التراثي "حسن إسماعيل" لمدوّنة وطن eSyria ما يسمى الفروقة في الغناء الشعبي وهي تختلف عن الأغنية الشعبية بكونها أغنية محلية حول حدث ما بمكان ما، حيث يمكن أن تصدح فروقة في قرية "وادي البركة" مثلاً ليس لها أي قيمة في قرية "تعنيتا" مثلاً.

فروقة غنائية

وعليه في منطقتنا بريف "العنازة" كشواهد حية عاصرتها من جدتي، كانت توجد عادة قديمة أن يحمل الرجل ملعقته الخشبية في جيبه أينما ذهب، ومن لا يحمل (خاشوقته) المزيّنة بالرسوم والنقوش في جيبه لا يستطيع تناول الطعام في أي منزل يزوره، وفي إحدى المرات أضاع أحد معمري ريف العنازة ويدعى "أبو يوسف" (خاشوقته) وحزن عليها كثيراً ونظم لها فروقة تروي المصاب الجلل بالنسبة له وتوثّق هذا الحدث ليكون عبرةً لغيره حيث قال: "والله لعمل فروقة على فراق الخاشوقة ضلت معي ست أشهر تبقاني فيها مسرور بعمري ما عبيتها زور غير عبيها على ذوقها، لما أضربها بالرز عليّ النعمة يجيبني العز وأمسكها بأيدي وهزها هز ويفرفح قلبي وما دوقا، يا عيني ما أحلى ذواقة وهي الأولى على رفاقها وعلى دايرها محراقة ومتل القلم ممشوقة، مرة من ذات الأيام خبيتها ورحت تنام الله بعتلها ابن حرام والصبح اصطبحت مسروقة".

وكذلك ارتبطت تلك الفروقات الغنائية المحلية بالقصص الزراعية، وما كان يحدث فيها خلال فترة قطاف أوراق التبغ مثلاً، حيث كان يعمد بعض المزارعين إلى إخفاء بعض الإنتاج عن أعين الورديان المكلفين رسمياً وهم بمنزلة شرطة مكافحة تهريب الدخان العربي، لبيعها أو تخصيصها كمؤونة لأفراد الأسرة المدخنين.

أجواء فروقة

وأذكر أنه عندما حضر التاجر لشراء التبغ من قريتنا وادي البركة أرسل "محمد إسماعيل" أولاده لإحضار التبغ من المخبأ، ولكنهم عادوا دون أن يجدوا شيئاً نتيجة سرقته، ومن شدة حزنه وألمه لمصابه الكبير حيث لم يعد بإمكانه تأمين المنزل بما كان يخطط له من غذاء، نظم فروقة صغيرة قال فيها: "اسمحولي يا ساداتي حتى أشرح حالاتي تخبركم عللي صار بكل صدق وإثباتي، عندي شوال من الدخان مخبا عن الورديان، خبيته بنص الوديان أنا وابني ومراتي، خبيته بليل الدامس ما فاق عليّ الحارث يومين ويوم الثالث ولي أجوني وليداتي، قالوا راحوا التتنات كيف العمل والحيلات، قلت بظني ما هو إثبات مين بيسرق كياتي، رحت من الصبح بكير قمنا وبلشنا التدوير، وما تركنا حفي ولا شير وما نكشته بدياتي".

وعندما سمع جاره ما نظم من فروقة عاد واعتذر منه كونه لم يكن يعلم بأن هذا التبغ له، فطلب منه مسامحته والتستر عليه، وأعاد له ما سرق منه، فقبل أبو فارس اعتذاره وقدم له نصف كمية التبغ ليبيعها ويطعم أبناءه بها، طبعاً هذه خلقت حالة إنسانية اجتماعية لمناصرة بعضنا البعض».

الباحث التراثي حسن اسماعيل

ويضيف: «وكذلك ارتبطت هذه الأغاني بالفرح والنخوة والرجولة التي كان يظهرها الشباب في الأعراس وحلقات الدبكة، ومنها حين نظمت شابة من ريف مدينة "بانياس" فروقة قالت فيها: "نزل على المرسح ومسكني حدُه وشلحني الخاتم الله لا يرده، والله تعمل متل ما بده جكارة بلي ما بحبونا"، فرد لها الشاب "على دلالك أه يا مدلعني غنجك ودلالك بالله شو بيعني شغل محبة وله ملعنة تمسك قبالي وتغمز بعيونا"».

طبعاً هذا الارتباط الوثيق بين مجريات الحياة وتوثيقها لحناً وكلمة كان له الأثر الكبير في حياتنا الاجتماعية، حيث نقلت لنا وقائع ومجريات تلك الحياة بصورة قرية محببة ولطيفة ويمكن التمثل بها، بحسب ما أكده المعمر "حاتم عبود"، فباتت هذه القصص أسطورية جميلة.