كثيرة هي الأعمال الريفية التي تنجح معتمدة على مبدأ "المحابرة"*، والصناعات المنزلية التراثية القائمة على "العنب البري" واحدة من أهمها، وفق مراحل طقسية أساسها التجفيف والغلي.

إن الوفرة في محصول "العنب البري" ضمن القرى الريفية الجردية في "طرطوس"، هي من أهم العوامل التي دفعت الأجداد إلى التفكير بطرائق للاستفادة أكثر من الثمار إلى ما بعد الموسم، فسخروا قدراتهم الجماعية وفق طقوس اجتماعية لتحقيق مردودية جيدة، هذا بحسب حديث الجدّ "علي عباس" من "ريف القدموس" الذي التقته مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 2 آب 2015، ويقول: «في حقولنا الزراعية وغير الزراعية ينتشر العنب البري أو المعروف بـ"الدعيبلي" أو "البقبوق" في بعض القرى، وذلك منذ سنوات طويلة، ولا أعتقد أن أجدادنا كانوا قد زرعوه في الطبيعة البرية، وإنما نما كأي نبتة برية من دون أدنى عناية به، ليأتي آباؤنا ويبدعون بطرائق لاستثمار هذه الحقول.

نرى أن العلاقة الاجتماعية في العمل تكافلية بين مختلف أفراد الأسرة، وهذه بالتأكيد طقوس تراثية متناقلة بالبصر والمتابعة للعاملين عليها

ففي مثل هذه الأوقات من كل عام تبدأ رحلات قطاف "العنب البري" للتحضير لصناعة "الدبس والزبيب" منه، فيذهب معظم أفراد الأسرة، ضمن نزهة فيها الكثير من أجواء المرح والتسلية، وغير متعبة لأي أحد وخاصة الصغار وكبار السن، حيث يمكن العمل في بعض الأحيان تحت ظل شجرة الكرمة، أو نختار الكروم الواقعة عكس وجهة أشعة الشمس، فيكون المناخ مناسباً للعمل لساعات عدة، والأطفال سعداء يتناولون ثمار العنب الحلوة الطعم».

دبس العنب

المعمر "شاهر زيدو" من قرية "شمسين" ممن يقومون سنوياً بـ"سطح العنب البري" وصناعة "الزبيب"، يقول: «نتناول العنب البري على مدار الموسم ونترك قسماً منه حتى الأيام الأخيرة لتزيد نسبة الحلاوة في الثمرة، وهي طريقة مجربة ومختبرة منذ سنوات عبر الطقوس والحياة التراثية السابقة، ثم تبدأ مراحل عمل المادتين الأساسيتين من العنب وهما "الدبس" و"الزبيب" الخاصتين بالمؤونة الشتوية، كأي مادة غذائية أخرى في المنزل الريفي التراثي، لما لهما من فوائد وأهمية في الطقوس التراثية والحياة العامة، خاصة أن بعض التجار يجولون في المنطقة خلال كل موسم لشراء "الزبيب" و"دبس العنب"».

ويتابع: «نجمع عناقيد العنب في سلل من القش ونحضرها إلى المنزل ليبدأ كامل أفراد الأسرة بتفريط حبات العنب وانتقاء الجيد منها والمتساوية بالحجم للتجفيف وصناعة "الزبيب"، أما الثمار المتوسطة والصغيرة الحجم فتجمع بعضها مع بعضها لصناعة "الدبس أو المربى"، ليأتي بعدها دور النساء في الغسيل ومتابعة تفاصيل الصناعة لكل منها».

شاهر زيدو وزوجته دعد

وهنا تتابع زوجته "دعد" القول: «نغسل العنب جيداً ونضعه في طبق من القش، ونعرضه للهواء تحت أشعة الشمس لعدة أيام حتى يتخلص من المياه الموجودة في الثمرة، وتبقى فيها المادة السكرية فقط، فتصبح الثمرة ذات لون ذهبي منكمشة على بعضها، وتوضع في جرار فخارية وهي طريقة حفظ تراثية، ويمكن وضعها في أوانٍ زجاجية مغلقة ًلحفظها جيداً حتى وقت الاستخدام، وتكون جاهزة للتناول».

وفي لقاء مع الباحث التراثي "حسن إسماعيل" يتحدث عن صناعة "الدبس" ويقول: «مع أواخر فصل الصيف في القرى الشرقية من الريف الساحلي، تبدأ عمليات صناعة "الدبس" لتوافر كروم العنب البري الطبيعي مئة بالمئة من دون أي أسمدة أو مبيدات، فسفوحنا مشهورة بها من زمن الفينيقيين، والدليل على ذلك كثرة المعاصر الحجرية الأثرية الحاضرة حتى الآن في الريف الجبلي.

الباحث التراثي حسن إسماعيل

إضافة إلى وجود "الباطوس الحجري" الخاص بعمليات طحن وكسر ثمار العنب ثم عصره، ووجود مستودعات لتخزين عصير العنب، كما في قرية "الدي"، وهي عبارة عن آبار حجرية منحوتة بدقة متناهية وبشكل بيضوي متضيق من الأعلى وعريض من الأسفل، ضمن كتل صخرية متجانسة تماماً، وهذه الآبار مجهزة للإغلاق المحكم لإتمام مراحل التعتيق».

ويضيف: «بعد تعريض ثمار العنب لأشعة الشمس لعدة أيام فقط، كانت تجمع وتعصر بطريقة بدائية من خلال وضعها بين قطعتي خشب ويوضع فوقها حجر كبير جيد الوزن، ليكون مثل الضاغط لاستخلاص السائل من الثمرة، وجرت العادة هنا بما أن العمل نسائي أن يحضر رب الأسرة أو أي رجل في المنزل الحجارة المناسبة من الطبيعة، لعدم قدرة السيدة على حملها، إضافة إلى أنه يبادر في مساعدة ربة المنزل بحملها ووضعها فوق الأخشاب بطريقة جيدة وثابتة، وبهذا يكون مشاركاً بالعمل بمبادرة منه.

وبعدها يجمع السائل ويصفيه بمساعدة الابنة الكبرى في المنزل، لقدرتها على إمساك قطعة القماش الخاصة بالتصفية، ثم يغلى على نار هادئة من دون أي إضافات، ويترك حتى يبرد ليوضع في أوعية محكمة الإغلاق وتكون جاهزة للتناول».

ويضيف: «نرى أن العلاقة الاجتماعية في العمل تكافلية بين مختلف أفراد الأسرة، وهذه بالتأكيد طقوس تراثية متناقلة بالبصر والمتابعة للعاملين عليها».

*"المحابرة": التعاون وفق المفهوم الريفي.