يفرض الخبز والملح وجوده وهيمنته على طبيعة العلاقة الإنسانية؛ فهي حالة من الود تتجسد بين الأشخاص بقصص وأمثال يتم تداولها وبوجه خاص في القرى والأرياف؛ فتناول الطعام على طبق واحد يعد "ممالحة" وحفظاً للعهد.

كثيرون من الناس يقولون: "تفضل مالحنا"، أو عن شخص ما "قد مالحنا"، وهذا لا يعني بحسب حديث الجد "شاهر محمود زيدو" من ناحية "الطواحين" في "ريف القدموس"، أن شخصين قد تناولا ملح الطعام معاً، وإنما عقد بينهما عقد روحي نفسي يحرم ما حرمه الله عليهما ويحلل ما حلله الله عليهما، وهنا أضاف لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 4 أيار 2015: «الفكرة الأساسية جاءت باعتقادي من أنني كشخص إن كان لي خصم ما، لا يمكن أن أتشارك معه على مائدة واحدة، أي نتناول الطعام معاً، من مبدأ عدم الأمان فيما بيننا، وبتوضيح أشمل كيف يكون هذا الأمان وحالة العداء والخوف من العواقب والنتائج قائمة، أما إذا كان لي صديق صادق فهو من يشاركني طبقي كما يقال بالشعبي التراثي في ريفنا الساحلي، أي حالة من الود والأمان دفعتنا للجلوس معاً وهي احترام ما سنتشارك به في تلك اللحظة، فالمعرفة العابرة أو التعرف إلى الأشخاص العابرين برأيي يعد ثانوياً بالمقارنة مع الجلوس على طبق الطعام بل هو أساسي تشاركنا به حياتياً كحاجة إنسانية».

لقد كان اختيار الخبز والملح لأهمية هذا العلاقة بين الأشخاص، لأنه حاجة أساسية لدى مختلف الشعوب، وهذه الحالة تاريخية طقسية اجتماعية، بالاعتماد على قدم وأهمية هذا المنتج في الحياة البشرية وعلى مختلف الصعد، ومنها الدينية، وهو دليل على عدم وجود عداوة بين الناس عندما يحترم ما جمعهم منذ الأزل

الجد "محمود حسن محمد" من قرية "الدي" في "ريف القدموس" أكد الرأي السابق، فقال: «تناول الطعام مع شخص ما يعني وجود حالة من الأمان بينهما، وهو ما يمكن اعتباره أماناً غذائياً، وهو مفتاح للأمان بين الأشخاص والعلاقات الأخرى، ومنها التجارية والأسرية والزواج مثلاً، التي كانت في تراثنا الساحلي الذي عشناه ذات قدسية عالية بعد تناول الطعام معاً، أو كما كنا نسميها "الممالحة"، فالاحترام لما هو أساس في حياة البشرية، يجب أن يستمر بالعلاقات الإنسانية وبطريقة أفضل ونحو الأفضل نتيجة هذه "الممالحة"، وهنا لا نقصد الخبز والملح، إنما الشراكة فيما هو مشترك بعرف جميع الأعراق والأديان والأعراف، والعلاقة بالفكر والعلاقات الحياتية المختلفة، وهو ما يمكن أن نعده حالة نظيفة قيمة وطاهرة وإنسانية تجلت من قيمة الخبز والملح في الحياة المعيشية».

شاهر زيدو

أما السيد "مرشد علي غانم" من قرية "الدي" أيضاً، فقال: «لقد كان اختيار الخبز والملح لأهمية هذا العلاقة بين الأشخاص، لأنه حاجة أساسية لدى مختلف الشعوب، وهذه الحالة تاريخية طقسية اجتماعية، بالاعتماد على قدم وأهمية هذا المنتج في الحياة البشرية وعلى مختلف الصعد، ومنها الدينية، وهو دليل على عدم وجود عداوة بين الناس عندما يحترم ما جمعهم منذ الأزل».

وقد تجسدت قيمة الخبز والملح عبر تراثنا العريق، بحسب حديث الباحث التراثي "حسن اسماعيل" بحل النزاعات والخلافات، وهنا قال: «قيمة الخبز والملح تجسدت عبر التاريخ والمراحل التراثية بين الناس بعد فض الخلافات مهما كانت، حيث تعقد موائد الطعام دلالة على حسن النوايا وصفاء النفوس.

الجد محمود محمد

وعلى المستوى الروحاني نجد في مختلف الأعياد ومنها الأعياد المسيحية، ما يمكن تسميته "طقس المناولة"، وهو إطعام المقدسين أو المصلين لقطعة خبز، تأكيداً على العلاقة السلمية بينهم واشتراكهم في حاجة أساسية حياتية».

ويتابع: «استمر هذا الطقس وتطور على المستوى الشعبي والعلاقات الاجتماعية بمختلف أجناسها، لتكون مآدب الطعام على شرف الضيوف، تأكيداً على أهمية الخبز والملح فيما بينهم وطبيعة العلاقة السليمة التي لا يشوبها شيء وفق العرف والتقاليد.

الباحث التراثي حسن اسماعيل

وهنا يمكن القول والتأكيد على أن هذه الحالة إنسانية تاريخية واجتماعية صنعت حالة من السلام بين الشعوب، وقد تحدثت فيها الأمثال الشعبية كثيراً ومنها: "رغيف برغيف ولا جارك جوعان"، وهو وثق حالة اجتماعية بالاعتماد على الخبز مثلاً.

إضافة إلى قول يتحدث به الجميع عن قدوم ضيف ما ومائدة الطعام حاضرة، فيقول رب الأسرة للضيف: "تفضل مالحنا"؛ وهي دليل على قدسية الحالة الناتجة بين الناس والتودد من الضيف».