تفاصيل حياة أجدادنا القدامى بكل ما فيها من مجريات عامة أو خاصة أدركناها بمختلف مفرداتها بالتسجيل المباشر لها دون مواربة، على المفكرة الجيبية الصغيرة، أو ما يطلق عليه التدوين الشعبي.

فقد كان المسجل أو المدون الشعبي يعتمد على قدرته في القراءة والكتابة وتفرده في بعض الأحيان بهذه الميزة، ليقوم بتسجيل مجريات حياة يومه أو حياة بيئته الاجتماعية بجميع تفاصيلها السارة والحزينة، الملأى بالعمل والتسلية، منذ ساعات الصباح الأولى وحتى بداية يوم جديد، وبعض الأشخاص في وقتنا الحالي -وهم قلة- ينتهجون نهج أجدادنا بالتدوين الشعبي والتسجيل، ومنهم السيد "فائز إسماعيل" من قرية "حرف الساري" التابعة لمدينة "جبلة"، الذي تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 29 كانون الثاني 2015، عما يقوم به فقال: «أسجل الأحداث اليومية البارزة في هذه المفكرة الجيبية الصغيرة، كتساقط الثلوج بيومه وتاريخه، وظهور ينابيع المياه، وخاصة منها التي جفت منذ عدة سنوات، كفوارة مياه "القبيسية"، وفترات تساقط الأمطار، وحالات الولادة والوفيات، وأعتمد عليها في زراعة مواسمي الزراعية، كما كان أجدادي يفعلون، وذلك بعد تحقق بصري حسي ملموس، وفي تاريخ سليم صحيح لا لبس فيه، خاصة إن وصلتني المعلومة من أحد ما، لأكون الشاهد والمدون.

التسجيل أو التدوين الشعبي الخاص بالزراعة مهم جداً باليوم والتاريخ، لأن نجاح المحاصيل فيها يأتي من معرفة مواعيد الهطولات المطرية للاستفادة منها في الزراعات البعلية التي كانت منتشرة وبكثرة، حيث لم يكن يوجد ما يعرف بالري الحديث الحالي

وهنا يجب التأكيد على أن بعض المدركين لأهمية التدوين الشعبي اليومي، ونتيجة انتشارهم على مساحات جغرافية واسعة، يساعدونني بالمعلومات الأولية، لمتابعتها الشخصية مباشرةً».

السيد فائز إسماعيل

ويتابع السيد "فائز" فيقول: «لقد سميت بالفكرة الجيبية لأن من أهم ميزاتها أن تذكر الشخص الحامل لها أو المدون الشعبي بالمواعيد والمناسبات والأحداث عند الحاجة والضرورة، إضافة إلى أنها مرجع للتحقق من صحة أي معلومة تم النقاش فيها بين طرفين، وفيها تكرست فكرة التدوين الشعبي وأهميته برأيي.

الباحث التراثي "حسن إسماعيل" من قرية "وادي بركة" التابعة لناحية "العنازة" في ريف مدينة "بانياس"، قال عن مفهوم وأهمية التدوين الشعبي: «التدوين الشعبي له من الأهمية الكثير في توثيق وتسجيل التاريخ اليومي لأجدادنا بجميع ما فيه من تفاصيل وأحداث مهمة، فقد كان بعضهم أي أبناء القرية مثلاً، وقد يكون فرداً فيها فقط، أو شخصاً من مجموعة قرى متقاربة بعضها من بعض، هو المهتم أو المسؤول -إن صح التعبير- عن كتابة وتسجيل تفاصيل هذه الحياة بكل ما فيها، هذا لم يكن قانوناً ملزماً وإنما عرف أو اهتمام شخصي من هذا الشخص.

وكان هذا التدوين الشعبي يهتم بمختلف التفاصيل المجتمعية الشعبية الشائعة والخاصة بحياة أبناء هذا المجتمع، ومنها تواريخ الزراعة، وتواريخ الحصاد، وتواريخ قطاف المواسم، وأقول هنا تواريخ لأنه كان يتم تسجيل مختلف التواريخ عبر سنوات متعددة لاختيار الأنسب منها للموسم الزراعي المطلوب، ومنها أيضاً وهي الأهم تواريخ زراعة التبغ، لكونه مصدراً زراعياً رئيسياً وأساسياً في أغلب المناطق الريفية، إضافة إلى تسجيل مواعيد هطول الأمطار أو ما يعرف شعبياً بـ"الرية" كرية "الحسوم والعزيزية والسبعة عشر"، وظهور "سمكة حداد" وهي عبارة عن غيمة مطرية كبيرة جداً، تظهر من الشمال إلى الجنوب، ولها شكل السمكة، وظهورها يعني موسم أمطار جيداً للزراعات».

ويتابع الباحث "حسن": «التسجيل أو التدوين الشعبي الخاص بالزراعة مهم جداً باليوم والتاريخ، لأن نجاح المحاصيل فيها يأتي من معرفة مواعيد الهطولات المطرية للاستفادة منها في الزراعات البعلية التي كانت منتشرة وبكثرة، حيث لم يكن يوجد ما يعرف بالري الحديث الحالي».

الباحث التراثي حسن إسماعيل

ومن تجربة شخصية مع التدوين الشعبي تحدث السيد "حسن"، فقال: «كان والدي من مدوني القرية، وحتى الآن بعد وفاته ما زلنا نحتفظ ببعض المفكرات الصغيرة التي كان يدون عليها أحداث يومه وأبرز الأحداث على مستوى القرية، ولو باهتمام ذاتي وشخصي، وأنا إذ أذكر والدي كمثال لأصل إلى القيمة المضافة لأهمية هذا التدوين الشعبي ومقومات الشخص العامل فيه طواعيةً بحب وإخلاص، فالأهمية كانت لإنجاح الأعمال الزراعية التي كانوا يقومون بها ويعتمدون عليها بوجه رئيسي في حياتهم اليومية، إضافة إلى أنها ستكون مرجعية جميع أبناء القرية والقرى المحيطة بها إن لم يتوافر رجل يقرأ ويكتب يقوم بهذا التدوين، حيث يجب أن يكون المدون الشعبي رجلاً ذا مصداقية وثقة لدى أبناء القرية، لأنه يسجل تاريخهم وتفاصيل حياتهم، وسيكون مرجعية الجميع لمعرفة أي تفصيل عام أو خاص في التاريخ السابق لأبناء القرية وحياتهم».