للأسرة الساحلية طقوسها الخاصة في فصل الشتاء، حيث يجتمع أفرادها حول المدفأة في السهرات المسائية، يتبادلون الأحاديث والتسلية ويستمعون لكل جديد، بحضور كأس "المتة" والمكسرات.

المهندس "بهجت وردة" من أهالي وسكان قرية "خربة السناسل" في ريف مدينة "بانياس" له طقوسه الخاصة بعد الانتهاء من أعماله اليومية ودروسه الخصوصية، حيث ينتظر فترة المساء للراحة بحضور الزوجة والأبناء، وهنا قال لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 18 تشرين الثاني 2014: «بعد العودة من دوامي الرسمي أتفرغ للعمل في محيط المنزل والحديقة المنزلية وتقطيع الحطب من أشجار الكثيفة، تجهيزاً للسهرة المسائية بجانب مدفأة الحطب مع كأس "المتة" ومن يحضر من الأصدقاء، وأجتمع في أغلب الأوقات مع أفراد أسرتي لمعرفة مجريات يومهم وكيف كانت، وخاصة منهم ابني الشاب "محمد" طالب الصف العاشر، وهنا يحضر جيراني -وهم كإخوتي- لقضاء سهرة جميلة بجانب مدفأة الحطب التي أوقدها مع انتهاء النهار، وهو ما يشعرني بحميمية السهرة وكأني كنت مع كل فرد منهم في مجريات يومه، لأن الجميع يروون أبرز ما مروا به وما سمعوه من أخبار، ومنها أخبار البلد الشغل الشاغل للجميع.

أحاول خلال ساعات النهار الانتهاء من فروضي المدرسية ليتثنى لي مجالسة والدي في سهرة المساء، خاصة في أوقات البرد والليالي الماطرة، حيث أشعر بدفء الأجواء باجتماع أغلب أفراد أسرتي وكأني أعيش طقساً تراثياً سمعت حكاياته الكثيرة من والدتي وجدتي

كما أننا نستذكر تلك السهرات في الأيام الخوالي قبل مرور حوالي خمسة أعوام، حيث كنا نجتمع حوالي عشرة أشخاص للعب الشدة أو طاولة الزهر، وكأننا في خمسينيات القرن الماضي».

وضع الحطب في المدفأة لاكمال متعة السهرة

الشاب "محمد وردة" ينتظر والده لينتهي من أعماله ليجالسه ويتحدث إليه بمختلف الأمور التي تتعلق بدراسته، وكيف كانت مجريات ساعات الدوام المدرسي، وهنا قال: «أحاول خلال ساعات النهار الانتهاء من فروضي المدرسية ليتثنى لي مجالسة والدي في سهرة المساء، خاصة في أوقات البرد والليالي الماطرة، حيث أشعر بدفء الأجواء باجتماع أغلب أفراد أسرتي وكأني أعيش طقساً تراثياً سمعت حكاياته الكثيرة من والدتي وجدتي».

وفي لقاء مع الباحث التراثي "حسن اسماعيل" أكد أن طقوس الأسرة عامة والريفية خاصة في "الساحل السوري"، طقوس حميمية لها جذور ممتدة إلى التراث القديم، حيث لم يكن يوجد تلفاز أو إنترنت، وإنما كان الراديو أفضل ما يملكون، ويضيف: «في كل يوم بعد الانتهاء مع الأعمال المختلفة وأهمها الحقلية، يجتمع أفراد العائلة الواحدة عند كبير أسرتهم بجانب مدفأة الحطب في فصل الشتاء، ويتحدث كل فرد من أفراد الأسرة عن مجريات يومه بمختلف تفاصيله، فيدرك الجميع مشاعر هذا الشخص من لكنته ونبرة صوته بين ارتفاع وانخفاض، وكأنهم يعايشون لحظات يومه بأدق تفاصيله، وكل هذا بحضور المشروبات الساخنة كالشاي أو "الزوفا" سابقاً، أو كأس "المتة" في مرحلتنا الحالية.

حميمية السهرات المسائية ومتعة التسلية

وأنا أرى أن الشتاء رغم برودة أيامه ومناخه المتقلب، فصل حميمي لأفراد الأسرة الواحدة والأصدقاء، فلا يتوانون عن تنظيم ساعاته للحصول على سهرة جميلة وممتعة».

ويتابع السيد "حسن" بالقول: «في السابق أي في الأيام التراثية، لم تكن سهراتهم المسائية لمجرد التسلية وإنما كان يرافقها عمل وإنتاج، وأهم الأعمال التي كانت تنجز في هذه السهرات الحميمية الأسرية، "تفتيل" الشعيرية على ضوء الكاز "الفانوس"، أي صناعة الشعيرية من دقيق القمح، وباعتقادي إن هذا العمل لم يكن لينجز لولا هذه السهرات الحميمية.

وكانت ترافق تلك السهرات والعمل المنتج الكثير من القصص والحكاية التراثية من الحياة اليومية، وهذه ميزة تلك السهرات برأيي، حيث اختلفت في وقتنا الحالي كثيراً وابتعدت عن العمل والإنتاج، وحافظت على التسلية بالوسائل الحديثة كالتلفاز والإنترنت».

حديث الباحث التراثي "حسن اسماعيل" وجهنا لتساؤل مهم؛ كيف حافظت الأسرة الساحلية على حميمية سهراتها في زمن تقانة الاتصالات؟ وهل بقيت هذه الحميمية أم تلاشت عند من تعاملوا مع تقانة الاتصالات؟ وهنا تحدثت المدرسة "سراب رقية" فقالت: «لا يمكن للمشاعر والألفة بين أفراد الأسرة أن تتلاشى مهما ابتعد بعض الأفراد عن بعضهم ضمن المكان الواحد بسبب ثورة الاتصالات وتقانتها، أو خارج المكان الواحد لأسباب العمل أو السفر أو غيرها، وتأكيداً على هذا التذكر الدائم لهم، وذلك من تجربة شخصية، فحين نكون في سهرة مسائية ويعمل كل منا على جواله نراسل بعضنا بعضاً وكأننا نؤكد حميمية السهرة على عكس ما يقوله بعضهم من برودة المشاعر، وأيضاً ترى الأجواء والأحاديث متتابعة ويستذكر كل منا حديثاً أو موقف الآخر، أو حتى مجريات يومه ومواقف وطرف حدثت معه خلال التواصل الإلكتروني أثناء انقطاع التيار الكهربائي، وهنا يمكن القول إن فترات انقطاع التيار الكهربائي رغم قساوتها أعادت طقوس الأسرة ودفء الأجواء الحالية إلى عقود سابقة».