طبعت تجربته الذاتية بصماته على أعماله الأدبية، وكان لبيئة "الدريكيش" مفهومها الخاص بإغناء كتبه الأدبية والشعرية بمفاهيم الجمال والحب والطيبة، رحل تاركاً مجموعة من الكتب الغنية التي يعبر فيها عن الترحال الداخلي والخارجي.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 1 تشرين الثاني 2018، مع "فيصل ملحم" من جمعية "العاديات" ليحدثنا عن أخيه الشاعر "جمال ملحم"، حيث قال:« لا يمكن الحديث عن "جمال" من دون ذكر قريتنا "الدريكيش" الغارقة بين مئات أشجار السنديان والآس والبطم والبلوط، فهو القائل:

يا صغيري المعتز بالطيبة والبراءة، ## والمعطر بنكهة الطين، وأريج الأسحار أيها المنوّر بالنجوم والكواكب، ## والموشح بالسحب والليائل ## سنديانةً كانت أم أرْزةً ## شجرةُ حبِّك ## صخرةً أم ## جبلاً من الماس وعلى مرّ آلاف الشتاءات والصواعق صامدة ## فإن عاصفة جهل واحدة كافية لأن تقتلع من الوجود قارة من السنديان والأرز، ## وتمحو جبال الصخر والماس إن العدم القاسي أوسع من كل الموجودات

"لك أيتها "الدريكيش" أدين بهذا الغِنى والحبّ والجمال وبهذا الحزن والوجع أيضاً أيتها الواهبة المُعذِّبة".

من لقاء مع الشاعر "سميح القاسم"

فمنها استسقى رهافة الحسّ وطيب الكلمة وتنوع المدارك، حتى نما الشعر بداخله وشحذت موهبته، فجاءت ألفاظه الشعرية مولودة كومضة من رحم التجارب، وبات الشعر والكتابة زاده وزوادته وأوكسجين عمره، وساهمت تجربته الغنية وقراءاته المنوعة والمختلفة في تكوين مسيرته الأدبية الخاصة ذات الطقوس المميزة».

وأضاف: «درس "جمال" في مدارس "الدريكيش" حتى الثانوية عام 1975، ثم توجه لدراسة الأدب العربي في جامعة "تشرين" بمحافظة "اللاذقية" حتى عام 1989، ثم عمل موظفاً في مدينة "الرميلان" من عام 1975 إلى عام 1982، وكان خلالها متفرغاً لتحرير المجلة العمالية الشهرية التي تصدرها نقابة عمال "الرميلان"، كما عمل مدرّساً للأدب العربي قبل وبعد تخرجه في مدارس "الدريكيش"، حتى دفعه حبه للبحر والسفر للعمل مؤقتاً بحاراً في إحدى السفن التجارية التي تجوب البحر "المتوسط" والبحر "الأسود"، وكتب بعدها كتابه "رحلة في البحار الأربعة من الدريكيش إلى منغاليا"، ثم استقر في "الإمارات المتحدة" مدرّساً للأدب العربي في "أبو ظبي" حتى وفاته».

ديوان "في"

وعن أعماله وكتبه، تابع بالقول: «بدأ كتابة الشعر بعمر مبكر، وقد صدرت له عدة كتب، منها: "مناخ آسيوي"، و"رحلة في البحار الأربعة – من الدريكيش إلى مانغاليا" ضمن سلسلة "سندباد الجديد" في مشروع "ارتياد الآفاق"، الذي أطلقته دار "السويدي" حول أدب الرحلات في "أبو ظبي"، وقد شارك كناقد ومحاور في ندوة "ارتياد الآفاق" التي عقدت في "الجزائر" مع عشرين كاتباً وشاعراً من مختلف البلاد العربية، وفي عام 2010 صدر له ديوان "في" عن دار "أرواد" في "طرطوس"، ووزع بمناسبة ذكرى وفاته الأولى».

وأضاف: «شارك في التحقيق لكتابي: "رحلة الأمير يوسف بن كمال"، و"سياحتي في بلاد الهند الغربية"، ونشر العديد من الدراسات الأدبية حول روايات نشرت في صحف ودوريات متعددة، منها دراسة عن رواية "اللغة السرية للأشياء" للروائي السوداني "محسن خالد" و"شموس الغجر" للأديب "حيدر حيدر"، ودراسات نقدية مطولة لعدة دواوين شعرية، أبرزها للشاعرين "علي كنعان" و"نوري الجراح"، كما قام بنشر العديد من المقالات والقصائد في دوريات وصحف مختلفة، ولا يزال لدينا المخطوطات التالية التي نحن بصدد طباعتها تباعاً، منها: ديوان "قضايا خاسرة"، وكتاباته الشعرية تشمل كافة أشعاره من عام 1976 إلى عام 1997، وكتابات شعرية من عام 1998 إلى عام 2004، ودراسات شعرية عن شعر وحياة الشعراء "نديم محمد"، و"غواية الرومانس"، و"بدوي الجبل"، و"معين بسيسو"».

ومن شعره مقتطفات من قصيدة "أَوْقِدْ سِراجَكَ":

«يا صغيري المعتز بالطيبة والبراءة،

والمعطر بنكهة الطين،

وأريج الأسحار أيها المنوّر بالنجوم والكواكب،

والموشح بالسحب والليائل

سنديانةً كانت أم أرْزةً

شجرةُ حبِّك

صخرةً أم

جبلاً من الماس

وعلى مرّ آلاف الشتاءات والصواعق صامدة

فإن عاصفة جهل واحدة كافية

لأن تقتلع من الوجود قارة من السنديان والأرز،

وتمحو جبال الصخر والماس

إن العدم القاسي أوسع من كل الموجودات».

الشاعر والصحفي "محمد سعيد الحسين" قال: «عرفت "جمال" منذ زمن طويل، وأظن أنه ككل الموهوبين السوريين أثر سعيهم وراء لقمة العيش في إنتاجهم الأدبي والفكري، فسعيه إلى سوق العمل المبكر ورغبته بتحسين وضعه الاجتماعي دفعه إلى السفر خارج القطر، وقد وثق هذه الرحلة عبر كتاب يعدّ من أدب الرحلات ضمّنه شيئاً من السيرة الذاتية، حيث ارتحل بالقارئ إلى "الدريكيش" وريفها، ثم اصطحبه في رحلته البحرية في المركب الذي عمل فيه إلى "منغاليا" وباقي المرافئ التي ارتادها على متن تلك السفينة؛ واهتمّ بأدق التفاصيل، وقد سلّط الضوء على كلّ ما هو حقيقي وفنّي في جغرافيّة طفولته وزمنيّتها، فكان الطاغي على تجربته الأدبية مرجعيّة غنيّة بالجمال، وكان واضحاً انتصاره للقريب منه والمحسوس؛ فقد جاء الكتاب ترحالاً داخلياً أكثر مما هو خارجي؛ إذ كان الضوء المنبثق من ذاكرة الشاعر البصريّة على تجربته داخل أسوار الوطن، أكثر بكثير من تجربة الرحلة البحريّة إلى بلدة "مانغاليا" في "رومانيا"، حيث رصد التحولات الجغرافيّة والإنسانيّة في منطقته بلدة "الدريكيش"؛ بواقعها المتبدّل المتغيّر المتمدّد غير المستقرّ، وخلق نوعاً من سردٍ حداثوي بعيد عن حداثة المدينة المتمثّلة بالاستقرار».

وأضاف: «كان "جمال" إنساناً بكل ما للكلمة من معنى، إنساناً بالمطلق، ومن هنا كان إيمانه بمعظم الشخصيات التي لها فضل على حياته، لذا كان شكره للريف بفضائه الاجتماعي والأخلاقي والعرفي والقيمي الذي عزّز وجدانه بمحبة كل إنسان ومنحه الحرية وعفوية الحياة وتقبل الآخر والاختلاف، ونبذ التعصب والتطرف والظلام، وكوّنت هذه العوامل مرجعيّته الجماليّة التي تختزن كمّاً هائلاً من الذكريات شديدة التفصيل والدقّة عن الناس والأمكنة والعادات والطقوس والينابيع والدروب، حتى الأنثى كان صاحبة بعد جمالي متمثل بالموجودات والإقبال على الحياة؛ لذا كانت نابضة وخلاقة وصاحبة خصوصية مكانية وزمنية مبدعة، وقد كتب كل الأنواع الشعرية والأدبية؛ الكلاسيكي، والتفعيلة، وقصيدة النص المفتوح».

بقي أن نذكر، أن الكاتب "جمال ملحم" من مواليد قرية "بشمس" في "الدريكيش" عام 1956، وقد توفّى إثر حادث أليم في 4 تموز 2009، أثناء عودته من إجازة الصيف برّاً على طريق (درعا - دمشق).