ساهم المربي "عبد الحميد محفوض" بتطوير ابتدائية "الدريكيش" وإحداث إعدادية فيها، وجمع طلاب القرى لتعليمهم وتابع تحصيلهم في منازلهم، وهو متنقل على ضوء الفانوس، وتكفل بالكرسي ونصف الكرسي المجاني للمتفوقين.

ابن مدينة "الدريكيش"، له الفضل الكبير على جيل المتعلمين الأوائل فيها، حيث كان له أسلوبه الخاص في التشجيع على التعليم في زمن الفقر، وعنه يقول الكاتب والباحث "يوسف مصطفى" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 6 تموز 2016: «المربي "عبد الحميد محفوض علي" من المربين الأوائل في منطقة "الدريكيش"، تلقى علومه في دار المعلمين "باريس"، وعاد أوائل الثلاثينيات حاملاً شهادة أهلية التعليم ويتقن اللغة الفرنسية إلى جانب العربية، وكانت أسرته ميسورة الحال، فوالده كان "تحصيل دار" المنطقة أيام الاحتلال العثماني.

حصل على عضوية في مجلس الأمة زمن الوحدة مع "مصر"، وقد رشح لهذا المنصب ترشيحاً نتيجة علاقاته الاجتماعية المميزة وقبوله من جميع الناس وكلمته المسموعة بينهم

تميز بالانفتاح ومحبته للعلم، وكان همه تعليم الأجيال، حيث ساهم بتطوير ابتدائية "الدريكيش" وسمّاها ابتدائية "خالد ابن الوليد"، انفتاحاً وتحرراً ومحبةً، وهذا انعكس على اهتمامه بالجيل الأول الذي تعلم في المدينة، نتيجة تحفيزه وتشجيعه له وحتى دعمه المادي أيضاً، فقدم له الطعام والشراب والسكن، وشجعه على ارتياد المدرسة لتلقي العلوم والمعرفة، وتولى بماله الخاص صرف تكاليف الكرسي المجاني ونصف الكرسي المجاني الذي كانت تمنحه الدولة وقيمته خمسون ليرة سورية للطلاب المتفوقين والفقراء أربعينيات القرن الماضي،

المدرّس يوسف دخيل

ثم ساهم في إحداث إعدادية "الدريكيش"، وكانت تسمى حينها "متوسطة الدريكيش" عام 1943، وهو من استقدم الطلاب إليها من المدينة والقرى المجاورة، وكان عددهم سبعة طلاب فقط».

ويتابع: «حضّ الطلاب على التعليم وتابعهم بشدة وصرامة في الليل والنهار على حد سواء، فتجول باستمرار بين منازلهم لتفقد حالتهم التعليمية ومتابعتهم للتحصيل العلمي، وكان يرافقه حينها مستخدم المدرسة حاملاً له الفانوس، كما ساعد الطلاب الفقراء وقدم لهم الألبسة والأحذية على الدوام، وكذلك بقية الناس الفقراء، حتى إن منزله كان "مضافة" لأبناء الجرد البعيد الذين لم يستطيعوا العودة إلى منازلهم نتيجة الأمطار والسيول الجارفة».

المربي عبد الحميد محفوض مع عائلته

أما المدرّس "يوسف دخيل" من أبناء المنطقة أيضاً، فيقول: «هو من غرس بذور التحصيل العلمي في المنطقة، عبر تشجيعه على التعليم وتأمين مدرسة ابتدائية في منزله في بداية الأمر، ثم متابعة الطالب في منزله، وأذكر أنه حين كان يرى طالباً في الحي يناديه ليسأله في بعض المواد المدرسية وخاصة الرياضيات والعربي؛ وهذا ما حدث أمامي مع المدرّس المربي "فائز دخيل" حين كان شاباً في مقتبل العمر».

كان للمربي "عبد الحميد" شخصيته الاجتماعية المحبوبة من قبل الجميع، وهنا يضيف المدرّس "يوسف": «حصل على عضوية في مجلس الأمة زمن الوحدة مع "مصر"، وقد رشح لهذا المنصب ترشيحاً نتيجة علاقاته الاجتماعية المميزة وقبوله من جميع الناس وكلمته المسموعة بينهم».

الجدة خديجة نصور

وبالعودة إلى الجانب التربوي من حياته يقول المدرّس "يوسف": «أبدع في التعليم ضمن مختلف المدارس التي علم ضمنها، لأنه كان منضبطاً وخلوقاً ومتمكناً من أسلوبه الخاص، كما شجع الأنثى على التحصيل العلمي، فأنتج أول شهادة جامعية حصلت عليها الأنثى في "الدريكيش" وذلك عام 1944، وكذلك للذكر عام 1932».

ويتابع: «أذكر جيداً كرمه التحفيزي على التعلم، وخاصة للطلاب الفقراء، فقدم لنا اللباس والحذاء والقرطاسية، علماً أن الاهتمام بنشر التعليم في تلك المرحلة كان شبه معدوم، فكان المربي "عبد الحميد" حالة مميزة، ولم يكن يوجد في "طرطوس" سوى ثانوية واحدة ضمن المدينة».

المدرّس "يونس إبراهيم" ابن قرية "تخلة" التابعة لمدينة "الدريكيش"، يقول: «كان يزور قريتنا "تخلة" على فرسه لأسباب عديدة، أولها ليجالس شباب القرية ويمازحهم، فهو المعروف بـ"نكتته" ومحبته للفكاهة، وهي سمة تميز بها أبناء قريتنا، وكنا نلتقيه كأطفال ليعطينا النقود، إضافة إلى أنه كان داعية للعلم على مستوى المجتمع، وكان السبب في إرسالي إلى المدرسة، بعد تشجيعه لوالدي مرات عديدة واصطحابي على فرسه الخاص إلى "حلاق الشعر"، ثم إلى المدرسة الشرقية في المدينة».

كان مسامحاً وودوداً ويقول المدرّس "يونس": «امتلك المربي "عبد الحميد" أملاكاً كثيرة، وأذكر أن أحد المزارعين اعتدى على أملاكه، فتقاضيا أمام المحكمة، وكان قبل كل جلسة محكمة في "صافيتا" يذهب بسيارته ليصطحب المدعي معه ويعيده بعد الانتهاء إلى منزله، وعندما سئل عن غرابة هذا التصرف، قال: "هو خصمي أمام القاضي، وصديقي أمام الناس والله"، إذن هو رجل مجتمع متسامح مع الناس، وله ذكر حميد في المنطقة قاطبة».

وفي لقاء مع الجدة "خديجة نصور" زوجة المربي "عبد الحميد محفوض" تقول: «في بداية علاقتي بزوجي عارضت أسرتي ارتباطي به لفارق العمر الكبير بنينا، لكن بعد تعرفهم وسماعهم عن أخلاق العالية وسمعته الاجتماعية الطيبة وتهذيبه وجرأته وعلمه قبلوا بكل رحابة صدر».

وتتابع: «عندما حصل على موافقة افتتاح مدرسة في "الدريكيش" بعدما أغلقت الأولى ونقلت إلى "صافيتا" جال على القرى المحيطة لتشجيع الأهالي على تعليم أبنائهم، وقدّم أربع غرف من منزل أسرته لمصلحة المدرسة، فأحضر الطلاب من المراعي والمنازل وبدأ تعليمهم على الرغم من قلة عددهم، وكذلك درّس في قرية "بيت الشيخ ديب" المجاورة لـ"الدريكيش"، وقدم المساعدة المادية والعينية للطلاب، نتيجة تردي أوضاعهم المادية، وتابعهم أيضاً في المرحلة الثانوية ضمن المدرسة والمنزل حتى نجاحهم، ثم نقل إلى ثانوية "محمد يونس" في مدينة "جبلة" وأحبه الطلاب كثيراً، وساهم بإدخال الإناث إلى التعليم حينئذ، بإحداث صف خاص بهن، ونقل إلى ثانوية "جول جمال" للتعليم فيها ودرّس المرحوم الراحل "حافظ الأسد" حينئذ، ورشح لمجلس الأمة إبان الوحدة مع "مصر"، وحمل همّ منطقته وتخديمها، وفعلاً حقق ما أراد، فساهم بتعبيد طريق "طرطوس - الدريكيش" للمرة الأولى بعد أن كان شبه ترابي».

يذكر أن المربي المرحوم "عبد الحميد محفوض" من مواليد مدينة "الدريكيش"، عام 1911.