نصف قرن من العطاء اللا محدود في المجال التربوي، تبلور من خلال مسيرة حياتها الصعبة اجتماعياً، فكانت عقبات التعليم أمامها كبيرة وسبباً حضّها كأنثى على التعلم والتعليم، كما أصبحت الملهمة للعمل المنتج والفعالية في المجتمع.

المربية "حليمة عثمان" سيدة في زمن المجتمع الذكوري، كما وصفتها قريبتها المدرّسة "خديجة عثمان"، فدورها الفعال في مختلف جوانب الحياة التعليمية والاجتماعية والتربوية كان المعيار، وتضيف لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 26 كانون الأول 2015: «بحكم صلة القرابة التي تربطني بالمربية الفاضلة "حليمة عثمان" والعلاقة الشخصية أيضاً، أدركت مسيرتها الحياتية والتربوية التي شاركتها بها مرحلة طويلة، فهي ابنة بيئة قروية في قرية "المرقب" التابعة لمدينة "بانياس"، صمّمت على التعلم على الرغم من صعوبة الظروف المحيطة بها، حتى إن أختيها اللتين تكبرانها بسنوات قليلة بقيتا أمّيتين، وكذلك أخوها الوحيد لم يتجاوز الثانوية العامة.

تميزت بتنظيمها للوقت الدقيق جداً؛ وهو ما انعكس على مسيرتها التربوية، فلا يجرؤ أحد على التأخر عن الدوام المدرسي، طلاباً كانوا أو كادراً تدريسياً أو إدارياً، والحق يقال إن حزمها في التعليم ومن ثم الإدارة كان ذا إيجابيات كبيرة على الجميع، خاصة مع مجتمع شبه منغلق على نفسه، لذلك ترى في مرحلتنا الحياتية الحالية نساء قديرات ومتعلمات ومثقفات بمختلف الثقافات

فبإصرارها على التعلم كانت وزميلتها الفتاتين الوحيدتين اللتين تنتهجا التحصيل العلمي من مدينة "بانياس"، على الرغم من أنها لم تلقَ الدعم المعنوي والمادي المناسب والكافي؛ المحفز للانطلاق والمتابعة في التعليم».

المدرّسة خديجة عثمان

وتتابع: «بعد حصولها على الشهادة الإعدادية تابعت بالصف الخاص أو ما كان يعرف بـ"دار المعلمين" في "حلب"، لتختصر الطريق المنتج مادياً على ذاتها، وتكون صاحبة دخل مادي يعيلها لمتابعة التعليم، وفي السنة الثالثة تقدمت لامتحان الحصول على الشهادة الثانوية "حر"، فحصلت على المركز الثاني على مستوى "سورية" بعد طالب ذكر، فحصلت على منحة دراسية إلى "فرنسا"، لكن للأسف لم تلتحق بها نتيجة ظروف عائلية.

ولظروف وضغوط اجتماعية منعتها من السفر إلى "دمشق" أيضاً، فتابعت دراستها الجامعية ضمن كلية الآداب قسم التاريخ بطريقة المراسلة، وكانت على الدوام من المتفوقات في سنواتها الأربع.

المدرّسة سمية بياسي

وبعد الانتهاء من الصف الخاص بدأت مسيرتها التعليمية في المحافظات الشرقية ومنها محافظة "دير الزور"، وبعد التخرج في الجامعة نقلت إلى مدينة "بانياس" لتتابع مسيرتها التعليمية التي توجتها بترأس إدارة المدرسة التي كانت حينها تسمى مدرسة "الشهيد حسن طراف" ضمن مدرسة "الراهبات" الحالية منذ عام 1970 وحتى سنّ التقاعد.

كانت محبة للعمل التدريسي المهني، لذلك كانت المعلمة والموجهة والمديرة، وهذا أدى إلى تميز مرحلة وجودها ضمن المدرسة، حيث إن جميع المدرّسين والإداريين مرتاحين بالتعامل معها، وفي حال غياب أي مدرّس تأخذ مكانه في الحصة الدراسية، لذلك قلما كنا نجد حصة فراغ خلال العام الدراسي، ولا أذكر أنها تعرضت لأي ملاحظة من الموجهين الاختصاصيين خلال مسيرة حياتها التربوية أو الإدارية».

متابعة تحصيلها العلمي شجعها على تعلم الحرف اليدوية لتكون أنثى منتجة تعيل نفسها، وهنا قالت المدرّسة "خديجة" عنها: «كانت تعمل بالحرف اليدوية التي أتقنتها بكل براعة كالتطريز وشغل الصنارة، لتعيل نفسها حين خُفف عنها المصروف إلى أقصى درجة خلال مرحلة تحصيلها العلمي، وبراعتها في هذا المجال فتح لها سوق جيد بين الجميع، حتى إنها باتت ترفض بعض الأعمال والتواصي نتيجة الضغط، كي لا تنشغل عن همّها الأساسي وهو التعلم، ما كان يضطرها إلى ضغط مصاريفها اليومية، ريثما بدأت التعليم على أساس الصف الخاص».

المدرّسة "سمية بياسي" من طلاب والكادر الإداري في مدرسة "ابن خلدون" عاصرت المربية "حليمة عثمان" خلال ترأسها إدارة المدرسة، تقول: «تعلمت على يديها وخبرتها، ومن ثم أصبحت مديرتي في المدرسة التي بتّ مدرّسة فيها، فهي مثال للأنثى الطموحة البارعة في تقديم المعلومة والمعرفة بوجه عام، وخاصة للأنثى، نتيجة الظروف التي تعايشت معها وطوعتها لمصلحتها، فقد تحدت واقعاً معيناً لم تجرؤ أنثى قبلها على تحدّيه في تلك الفترة، وأعتقد في وقتنا الحالي نوعاً ما.

وعلى صعيد المرحلة التي واكبتها فيها كمدرّسة لي، فقد كانت مربية قوية الشخصية يحتسب لها ألف حساب من قبل الجميع؛ من طلاب ومدرّسين والأهالي في المدينة، فقد حملت همّ تعليم الأنثى، وخاطبت أرباب أسرهن من موقعها الوظيفي وشجعتهم على إرسالهم بناتهن إلى المدارس لمواكبة تحصيلهن العلمي، وتابعتهن في المدرسة، وعملت على تقديم المعرفة والرؤية الشمولية للواقع والأشياء المحيطة بهن، فكنّ من أوائل الدورات التي تخرجت عندها، وأذكر أنها كانت صارمة جداً، وكنا حين نراها في شارع الحي خارج الدوام المدرسي نختبئ خوفاً منها».

وتتابع: «ما ساعدها على إبراز دورها وبلورته بأسلوب منهجي، صرامة التعليم في تلك المرحلة وعلى رأسها مادة التربية العسكرية، حيث إن صرامتها وقسوتها كانتا الدافع لتشجيعي على التعلم وتحمل ضغوط المجتمع، وأذكر أننا كنا نحفظ الدرس من شرحها فقط، ولا نحتاج إلى مراجعته في المنزل، حتى إن إيحاءاتها وحركات يديها معلم مساعد بالنسبة لنا على الفهم، وأعتقد أن هذا تميز يضاف إلى ما سبق ويجعلها علامة فارقة بين زملائها المدرّسين الذين عاصرناهم».

المدرّسة "بثينة بهلوان" من طلاب المدرسة "حليمة عثمان" في البداية ومن ثم ضمن كادرها التدريسي في مرحلة متقدمة من مسيرتها التعليمية، تقول: «لقد ساهمت المربية الفاضلة "حليمة" بشخصيتها القوية بتنشئة جيل كامل متعلم من الإناث، فكانت قدوة لنا لنحصل على حقنا في التعليم ولنتابع في رسم مستقبلنا الإنساني الوجودي، من حيث وضع النقاط على الحروف لوضع الأنثى في المجتمع، وذلك انطلاقاً من مسيرة حياتها الكفاحية في التعلم والتعليم والعمل.

إضافة إلى أنها كانت مجتهدة بعملها ومعطاءة إلى أقصى درجات العطاء، ليس فيما يخص حياتها التربوية فقط، وإنما في حياتها الاجتماعية أيضاً، لذلك حظيت باحترام الجميع من دون استثناء».

وتضيف: «تميزت بتنظيمها للوقت الدقيق جداً؛ وهو ما انعكس على مسيرتها التربوية، فلا يجرؤ أحد على التأخر عن الدوام المدرسي، طلاباً كانوا أو كادراً تدريسياً أو إدارياً، والحق يقال إن حزمها في التعليم ومن ثم الإدارة كان ذا إيجابيات كبيرة على الجميع، خاصة مع مجتمع شبه منغلق على نفسه، لذلك ترى في مرحلتنا الحياتية الحالية نساء قديرات ومتعلمات ومثقفات بمختلف الثقافات».

يذكر أن المربية "حليمة عثمان" من مواليد قرية "المرقب" عام 1937، توفيت عام 2011.