جسد الشاعر الراحل "يوسف الصارمي" تجربة أدبية وإعلامية ثرية في السجل الاغترابي الفريد، حيث حضر الاغتراب وأدبه كثيراً في الذاكرة السورية، وكان أكثر من مجرد جسر تواصل بين أبناء البلد الواحد واللغة الواحدة.

كثيرة هي الهجرات التي قام بها السوريون على امتداد العصور، وكثيرة هي أسبابها، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الرغبة في التعرف على بيئات جديدة، ولم تكن هجرتهم إلى "أميركا" مطلع القرن العشرين آخرها، يذكر الكاتب "كمال لاشين؛ مع آخرين" في كتابه "الأدب العربي الحديث" أن ميل "الشاميين" (أهل بلاد الشام) إلى الهجرة ميلٌ "فطري"؛ لحب المغامرة وطلباً لرغد العيش، إضافة إلى عوامل الجذب التي قدمها "المبشرون" ودعايات السياح آنذاك (كتابه، المقدمة، طبعة أولى 1965).

يميل إلى استثمار الرمز، وإسقاط ذاتيته على الأشياء، تتسم لغته باليسر مع ميلها إلى المباشرة، وخياله قريب المنال

ومن الساحل الشامي هاجر كثيرون في رحلات مختلفة، أولها كما يذكر الدكتور "خضر عمران" أستاذ "التاريخ الحديث" في جامعة "تشرين" في حديث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 15 آب 2014: «حدث مع مطلع القرن العشرين، حيث اتجه كثيرون إلى الأميركيتين بعد مجازر "جمال باشا السفاح" في "دمشق" و"بيروت" عبر "أوروبا"؛ قاصدين "بلاد الذهب" والرزق الوفير، وكان منهم من أهل الجبل كما البحر، ولا يذكر التاريخ اسم الشخصية الأولى التي غادرت إلى هناك من الساحل السوري الراهن».

أحد أعداد المواهب

استمرت الهجرات بعيد الحرب العالمية الأولى، ومن هؤلاء الشاعر "يوسف الصارمي"، يتحدث الأديب المهجري المعروف "جورج صيدح" في كتابه "أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية" - دار العلم للملايين - بيروت 1964، عن حياة الشاعر، فيقول: «هو ابن الشيخ "حسن الصارمي"، ولد عام 1897 في قرية "كفر جوايا" منطقة "صافيتا" محافظة "طرطوس"، تلقى تعليمه على يد والده في قريته، وفي قرية "ديفة" في "اللاذقية"، على يد الشيخ العلامة "سليمان الأحمد"، عضو مجمع اللغة العربية في "دمشق" والفقيه والمحدث المعروف، فاكتسب بذلك قاعدة علمية وأدبية مكنته من مواصلة سعيه في طلب العلم.

هاجر إلى الأرجنتين عام 1930، واستقر في مدينة "توكومان" على نهر "دولسي" غرب البلاد، ومنها أخذ يراسل الصحف في العالم العربي مدة 14 عاماً، نشر خلالها العديد من القصائد والمقالات في الكثير من شؤون المغتربين العرب وأحوالهم هناك، ثم أنشأ مجلة "المواهب" عام 1945، وكانت مجلة أدبية رفيعة المستوى، فقد كان من كتابها العلامة "سليمان الأحمد"، والشاعر الكبير "إلياس قنصل"، والشاعر القروي، وغيرهم».

من الأعداد أيضاً

مع نشوء الرابطة الأدبية في أميركا الجنوبية، كان الأديب "الصارمي" أحد مؤسسيها، إلى جوار "زكي وإبراهيم، إلياس قنصل، وجبران مسوّح" وآخرين، وهي غير الرابطة القلمية التي أنشئت في المهجر الشمالي، ويذكر الباحث الراحل "فيليب حتي" في كتابه "السوريون في أميركا" أن جهود الرابطة تركزت في حماية اللغة العربية عبر تعليمها للأجيال الجديدة هناك، ويضيف: «أسس "الصارمي" مدرسة لتعليم اللغة العربية، وكان بيته مقصداً لطلاب اللغة العربية، وملتقى لأعضاء الرابطة الأدبية في "الأرجنتين"، كما علّم أولاده اللغة العربية كما لو كانوا في بلادهم الأصلية».

ومما يذكره أيضاً: «ما زال الجيل الأول من السوريين ينظرون إلى اللغة العربية نظرة تقترب من التقديس، ونفوسهم لا تهتز إلا لدى سماعها، وهم يتطلعون بشغف إلى خطيب عربي يخطب بينهم بلغتهم الأم وما فيها من غنى وموسيقا، ولا يجدون مبرراً أن يحاضر خطيب بأية لغة أخرى».

في استضافة أبو ريشة

عاشت مجلة "المواهب" حوالي خمسة عشر عاماً، وحين انتقل "الصارمي" إلى العاصمة "بيونس آيرس" نقل تحريرها معه، وكانت سنتها عشرة شهور، وشاركه في تحريرها نسيبه "محمود الصارمي"، وبقيت تصدر حتى عاد الرجل إلى "دمشق" عام 1965، ومنها انتقل إلى قريته وبقي فيها حتى وفاته عام 1986.

لـ"الصارمي" ديوان شعر مخطوط يحمل عنوان "الصارميات"، وهو محفوظ لدى أبنائه، إلا أن نتاجه الشعري مبثوث في أعداد من مجلته "المواهب"، منها "أم تغني طفلها" - العددان (1و2) – أيار وحزيران عام 1949، و"رونق الشعر" - العدد (9) - آذار 1950، ويدور أغلب شعره حول موضوعات قومية وغزلية، أبرزها الحنين إلى الوطن، ويقول معجم "البابطين" عنه: «يميل إلى استثمار الرمز، وإسقاط ذاتيته على الأشياء، تتسم لغته باليسر مع ميلها إلى المباشرة، وخياله قريب المنال».

ومما قاله الشاعر مخاطباً الشاعر "عمر أبو ريشة" في حفل استقباله في "الأرجنتين" عام 1953م، متحدثاً عن نكبة "فلسطين" التي أدمتْ فؤاده، وأيقظت الكثير من مشاعره القومية:

"أَي فَتى العُربِ يا رسول بلادي.... وبلادي هي المُنَى والسُّهولُ

أَيؤولُ المَجدُ المُضيَّعُ في القُدْ.... سِ أم المجدُ غالَهُ الدَّهرَ غُولُ

أتَضُــمُّ البــلاد رايتها الكُبــرى.... وَشيكاً أَم ذاك أمـــرٌ يَطُــولُ

أَتظلُّ اليهــــــودُ عِبئاً ثقيـــلاً.... أم لهــا يومها الأَصَــمُّ الطَّويلُ؟".