رغم أن المكان كان مزدحماً ومليئاً بالضجيج لإجراء حوار مع الأستاذ "وفيق يوسف" إلا أن ذلك لم يؤثر في نقل كل إحساساته وصدقه إلينا عبر إجاباته المشاكسة كثيراً، ورغم كل الهدوء الذي يبدو في ملامحه.

وفيق يوسف من مواليد دمشق (1961)، بدأ العمل في الصحافة اللبنانية (1986- 1987)، وانتقل للعمل الصحفي في دمشق منذ 1990صدر له عدة مؤلفات هي: (ثمن الحب- دراسة- 1998)،(المطعون - رواية - 2000)، (التيارات المتناوبة - قصص - 2003)، (يوميات التصوير - دراسة - وسيناريو فيلم (الهوية) -2007، ورواية جديدة قيد الطباعة، وكذلك كتاب في الدراسات الأدبية.

بدأ حديثه عن روايته "المطعون بشرفهم" والتي اخترناها له في موقعنا حيث قال: "لا يوجد ما يمثلني شخصياً ككاتب أفضل من رواية (المطعون بشرفهم) التي أعتقد أنها تشكل تمثيلاً صادقاً وأميناً لصبوات وآمال وانكسارات جيلنا".

هذا الجيل الذي دخل معمعة الأدب في ثمانينيات القرن الفائت، ليفاجأ بكم هائل من السدود والصدود والحواجز والعقبات، التي وقفت بوجه طموحاته ومشاريعه الإبداعية، ابتداءً من حالة التهميش التي يعيشها المثقف والمبدع في مجتمعاتنا، وانتهاءً بثورة الاتصالات وسيطرة ما يدعى بـ (الثقافة البصرية) على حساب الكتاب، وتراجع القراء بشكل فاضح، وتحول الإنسان إلى (كائن متلفز) على حد تعبير فيلسوف عربي، ومروراً بالانهيار الحضاري الشامل الذي تعيشه مجتمعاتنا.

وما حاولته في روايتي إياها، تقديم شهادة حقيقية، وإن كانت موجعة وصارمة، لكل ذلك الانكسار الفاجع في أحلام جيلنا، ويتابع الأستاذ يوسف: "صحيح أنني ركزت على مرحلة الثمانينيات، عبر متابعة المصائر الحزينة والمأساوية لشخصيات عايشت تلك الحقبة الصعبة من تاريخ البلاد، محاولاً تكثيف الزمن إلى أقصى حد ممكن، إلا أن أحداث الرواية تمتد فعلياً لأكثر من نصف قرن كامل، أي ابتداءً من لحظة (1984) المفصلية، وحتى بداية التسعينيات، وتمثل طموحي في رصد جدلية الصعود والسقوط في الحياة السورية والعربية، ويضيف: "أعتقد أن الشجاعة كانت حاضرة في تناول أسباب الانكسار الكبير، وذلك ماأجمع عليه النقاد والأدباء".

أما فيما يتعلق بظروف العمل في الرواية فهذا يحتاج إلى رواية كاملة أخرى للحديث عنها، حيث بدأت العمل على الرواية في العام 1987 في بيروت (وكنت أعمل في الصحافة اللبنانية آنذاك) وأنهيتها في دمشق في العام (1990)، وبعد عدة مراجعات وتنقيحات بدأت بتمريرها على رموز ثقافية سورية وعربية، من الأجيال التي سبقتنا، لإبداء رأيهم في المخطوط ومنهم (الراحل عبد الرحمن منيف، فيصل دراج، علي كنعان، الراحل سامي الجندي، إلياس خوري، محمد ملص...) ورغم حماس الجميع، وإبداء آراء إيجابية في النص، لدرجة أن معظمهم أجرى اتصالاته بدور نشر عربية، في بيروت والقاهرة وعمان، إلا أنني لم أوفق بناشر يتجرأ على نشر الرواية، حتى جاءني الصديق الكاتب محمد كامل الخطيب بإعلان عن (جائزة الشارقة للإبداع العربي) ونصحني بالمشاركة وبالفعل، أرسلت المخطوط، وكان الحظ إلى جانبي هذه المرة، حيث فزت بالمرتبة الأولى، وكان ذلك عام 2000، إذن فإن رحلتي مع هذه الرواية امتدت عشر سنوات أو أكثر، حتى خرجت إلى النور، وذلك ما يلخص حال الإبداع والمبدعين في زماننا ومكاننا.

وحين يكون السؤال عن علاقة الكاتب بدور النشر والتوزيع نلمس ذلك الغضب الذي أراده أن يظهر حيث أجاب : "تحدثت سابقاً عن معاناتي ككاتب، مع عالم النشر والطباعة والتوزيع، وبحكم علاقاتي وصداقاتي أعرف جيداً معاناة زملائي في الوسط الأدبي، إنها أزمة مركبة وجميع الأطراف فيها خاسرة، الكاتب والقارئ وحتى الناشر! وتؤدي في مجملها إلى مزيد من الخراب في عالمنا، فيكفي أن تعرفي أن عدد النسخ المطبوعة من كتاب جديد لا يتجاوز الألف نسخة فقط، وهذا يشمل الأسماء الكبيرة في ثقافتنا العربية.

وهذا الرقم "التافه" حسب قوله مخصص لأمة يبلغ عدده (300) مليون نسمة، ألا يكفي هذا للدلالة على عمق الكارثة التي تسير إليها مجتمعاتنا".

لقد مثل الكتاب على الدوام مؤشراً حضارياً بالغ الدلالة على صعود أو انهيار أمة ما، لدرجة أن فعل القراءة بات مقياساً للتحضر بحد ذاته.

وإذا دخلنا في تفاصيل هذه اللوحة القاتمة، نجد أن الكاتب هو الخاسر الأول، وغالبا ما تهضم حقوقه، عداك عن مشقة انتقال الكتاب بين قطر عربي وآخر، ودور الرقابة على الكتب وغير ذلك وباختصار، فإن حضارتنا العربية كانت توصف على الدوام بأنها حضارة الكتاب، وأمتنا هي أمة القراءة، والديانة الوحيدة التي يبدأ كتابها المقدس بفعل الأمر (اقرأ) ! هذه الأمة تبدو اليوم وقد أدارت ظهرها كلياً للكتاب والقراءة، وجلست تحملق في ذلك التلوث البصري الذي تبثه شاشات التلفزيون على مدار الساعة.

والخطورة في ذلك أنه يعيد العربي إلى بدائيته الأولى، ويحوله إلى (كائن بيولوجي) يعيش حياته كفسحة زمنية يقضيها في الأكل والشرب والتناسل بعيداً عن أي نزوع حضاري ممكن.

حاولت بعد ذلك طرح بعض الأسئلة الهادئة التي خففت من ضجيجه وغضبه فسألته عن الكتب التي يحب قراءتها وعن تأثير الأجواء المحيطة به ككاتب ليكون نصّه الابداعي فأجاب:

"كان "دوستويفسكي" ومازال أستاذي الأول، والذي لاأملّ من قراءته منذ كنت في الجامعة لدرجة أنني لاأستطيع تعداد عدد المرات التي قرأت فيها أعماله، وبالذات أعماله الكبرى مثل "الجريمة والعقاب" و"الأبله"، كذلك قرأت لكتّاب كبار وأساتذة حقيقيين في فن الرواية مثل: (فوكنر–ماركيز–بورخيس– كازانتزاكيس، وغيرهم الكثير.

أنا من الناس الذين يحبون سماع الموسيقا وأؤمن بدورها في التحريض على الكتابة، وعلى الإبداع عموماً، والأهم دورها في ذائقة الإنسان ورفع سويته الجمالية والحضارية.

أعتقد أن سؤالك في محله، من حيث غياب دور الموسيقا الراقية عن عالمنا سواءً كانت موسيقانا الشرقية الأصلية أو الموسيقا الكلاسيكية الغربية. وبدلاً من ذلك لانجد اليوم سوى الضجيج البصري الذي يصم الآذان، و(التلوث السمعي) الذي يسمم ذوق البشر وحياتهم معاً.

أما عن علاقتي بأسرتي فقد تفردت علاقتي بأمي دوناً عن بقية العائلة وأعتقد أنني مدين لها بالكثير، وخاصةً بالنظرة إلى الحياة من منظور الحب وصمود الحب كقيمة عليا في الحياة وبخاصة في هذا الزمن الذي تتراجع فيه قيمة الحب من حياتنا وعالمنا. أما علاقتي ببقية العائلة فكانت علاقة الابن الضال الخارج عن الصراط المستقيم بعائلته التي تريد إعادته "جادة الصواب" وهذا ماأدى إلى صراع طويل استنزف الكثير من جهدي وطاقتي، على امتداد سنوات طويلة. عموماً أعتقد أن الكاتب الحقيقي لايمكن أن يحقق ذاته إلا بالتمرد على محيطه الاجتماعي والعائلي وعلى كل مايشده إلى الوراء، وعليه أن يمضي قدماً وإلى الأمام دائماً شاقاً طريقه وسط الأسلاك الشائكة، وماأكثر الحواجز التي تقوم في وجهه عند كل خطوة يقوم بها.

لابديل عن الحب ولاعزاء في حياتنا اليوم إلا بالحب ووسط كل هذا الصخب والضجيج المحيطين بنا وكل تلك الدماء التي تملأ شوارع هذا العالم البائس لابديل عن الحب أكرر. وعلى الصعيد الشخصي كان للحب قيمة عليا في حياتي على الدوام لدرجة أنني لاأستطيع تصور حياتي بدون المرأة وأشعر بالامتنان والعرفان لنساء كثيرات مررن بحياتي أو مررت بهن (دون أن يكون هذا المرور عابراً) فأغنينَ حياتي وأضفن إليها لمسة جمال .ويتابع: أريد أن أقول أن أصدقائي حين كانوا يلهثون خلف الموقع والمنصب والثروة كنت أفتش عن الحب باعتباره بوصلتي الوحيدة في الحياة.

أعتقد أن الهدوء النفسي والشعور بالرضى أمران مدمران تماماً للكاتب بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن رأسمال الكاتب ومحرضه الأساسي إنما ينبع من "القلق" الداخلي العنيف الذي يعصف بروحه، ويجعله على قناعة بأن العالم يسير بالمقلوب وبأن العدالة غائبة عنه، وبأن ثمة خطأ ما في الوجود الإنساني. وكل ذلك يدفعه إلى القلق الداخلي والتوتر الدائم، والرغبة بفضح الأكاذيب المحيطة بنا من كل ناحية والقبض على الحقيقة الهاربة أو الغائبة. وبشكل عام فإن الكاتب الحقيقي من الصعب أن يتصالح مع محيطه لذلك أقول إن القلق هو رأسمال الكاتب وليس الهدوء والشعور بالرضى. ألم يقل مبدعنا الكبير "المتنبي" قبل ألف سنة: على قلق كأن الريح تحتي. ملخصاً بذلك مسار الكاتب على مر العصور.

أما عن علاقته بأصدقائه والمكان فكان جوابه: "لاأعرف إن كان للأصدقاء دور حقيقي في تجربة الكتابة ولكن من خلال تجربتي الشخصية أعتقد أن ثمة أصدقاء لعبوا دوراً طيباً في مسيرتي الابداعية ولكنهم من خارج الوسط الأدبي أو الثقافي . وعموماً أنا لست مؤمن بالصداقات القائمة في الوسط الأدبي المتخم بالأمراض لدرجة لم يعد لديّ الحافز للدخول فيه.

وبالنسبة للمكان فأنا مؤمن بأنه لايوجد كاتب بلا جذور، والارتباط بالجذور يبدو رافداً هاماً من روافد الإبداع . ويمكننا التحدث مطولاً عن الإبداعات الكبرى التي قامت على أساس الارتباط بالجذور والأوطان أو بالعكس. ابداعات قامت على فكرة الانقطاع عن الجذور "فماركيز" في رائعته (مائة عام من العزلة) إنما كتب مأساة أمريكا اللاتينية ومأساة بلاده كولومبيا من مقر إقامته في باريس. ولاننسى كذلك الأدب الفلسطيني من شعر ورواية والذي قام في معظمه على فكرة الارتباط بالأرض والمكان الضائع. لذلك فإنني أوافقك على فكرة الارتباط بالأرض كحافز لتحريض المخيلة الابداعية.

وحين سألته بماذا تحلم لكتابك، ولمستقبل الرواية والقصة القصيرة في سورية أجاب: "لست واهماً وأعرف أن عدد القراء في بلادنا ومجتمعاتنا في تراجع مستمر وأن الكتاب

يوشك على الانقراض من حياتنا رغم أنه أثمن إنجاز حضاري للبشرية لذلك فإنني أحلم بمجيء زمن يستعيد فيه الكتاب حضوره الطيب في حياتنا وألقه في مجتمعاتنا التي طالما تغنت بالكتاب كقيمة كبرى وطالما اعتبرت حضارتنا العربية (حضارة الكتاب) أساساً. وكذلك الأمر بالنسبة لمستقبل الرواية والقصة في سورية. آمل أن يأتي ذلك الزمن الذي يحقق فيه هذا الجنس الأدبي الهام مايستحقه من حضور طيب.