يهدف سوق المهن اليدوية الذي افتُتح في "طرطوس" للتعريفَ بصناعات تقليدية أبدعها حرفيون آمنوا بضرورة التمسك بهوية تراثٍ عمره آلاف السنين، ليشكلَ بانطلاقته الخطوة الأولى لانطلاق أسواق تراثية في مناطق المحافظة كافة، تسهم جميعها في الحفاظ على حرفٍ شارفت على الاندثار والترويج لها وزيادة الأيدي العاملة بها.

هوية تراثية

تنفرد "طرطوس" بصناعاتها التقليدية التراثية التي تتناسب مع المقومات والمواد الأولية المتوافرة في كل منطقة، صناعاتٌ تعود بتاريخها إلى الفينيقيين الذين برعوا بأشكال الصناعة كافة، ومن خلالها عملوا على تحسين اقتصادهم، فمن صناعة الصباغ الأرجواني الذي انفردوا به، إلى الصناعات المعدنية التي ضمت النحاس والحديد والقصدير والذهب، وقد رجّحت الدراسات التاريخية في معظمها أن أول من صنع الأواني الزجاجية هم الفينيقيون، كما صنعوا الأواني الخزفية التي ما تزال بقاياها شاهدةً على ازدهار هذه الصناعة آنذاك، كما استثمروا غنى الغابات بالأخشاب فكانوا أول من صنع قوارب الصيد والسفن الحربية والتجارية، ناهيك ببراعتهم في صناعات القش والخيزران والحرير والصدفيات، صناعاتٌ توارثتها الأجيال المتلاحقة حتى أصبحت تمثل هويةَ المحافظة فينيقية الأصل، حيث اكتسب أهلها مهارات الأجداد فعملوا على صناعة كل ما يحتاجونه ويضمن لهم البقاء، مستثمرين ما توفره لهم الطبيعة من مواد أولية.

الرمل البحري بألوانه، والأصداف وبقايا بعض الكائنات كالمرجان والطحالب المرجانية، ونجوم البحر والإسفنج، هي خامات يقذفها البحر تبقى بلا قيمة إن لم أجمعها وأعمل على تشكيلها في لوحات تحاكي تراث الساحل.. أعمالي مبسطةٌ وبالوقت نفسه تتميز بلمسة جمالية، حفّزت الكثيرين ممن شاهدوها على أن يعملوا مثلها، وهذا ما أخبرني به زوّار السوق، ممن يمتلكون هواية جمع الأصداف

إحياء للتراث

لكن مع تطور وسائل الصناعة وأدوات الإنتاج أخذت الصناعات التقليدية تتراجع تدريجياً، حتى أصبح عدد العاملين بها محدوداً جداً، الأمر الذي استلزم إيجاد الطرق لإحيائها وحمايتها من الاندثار، فبدأ الحرفيون بإقامة الدورات التعليمية لمحبي هذه المهن، ولمن يودُّ اتخاذها وسيلةً للعيش، وبدأت أعدادهم تزداد من جديد، ومع هذه الزيادة في عدد الحرفيين ومنتجاتهم ظهرت الحاجة لإيجاد طرق لترويج وتصريف المنتج، منها إقامة المعارض المؤقتة التي لم تكن كافية، فكان وجود معرض دائم هو الحلم الذي تحول إلى مطلب مُلِح من قِبل الحرفيين، والذي أبصرَ النّورَ بعد جهود حثيثة تكللت بافتتاح سوق المهن اليدوية على الكورنيش البحري في المدينة.

جانب من مشروع "نعومي"

يرى أ."منذر رمضان" عضو المكتب التنفيذي المختص باتحاد الحرفيين أن لافتتاح السوق أهميةً بالغةً في الساحل السوري عموماً و"طرطوس" على وجه الخصوص، لما تمتلكه من موروث ضخم جداً، ولأن مشاركات الحرفيين السابقة في المعارض المؤقتة كانت ناتجةً عن إيمانهم بأن الحرب على بلدهم تستهدف هويتها التراثية التي اكتسبتها عبر تاريخها الطويل، وكانت إثباتاً لامتلاكنا هذه الهوية، لكن افتتاح السوق كمعرض دائم سيكون بمنزلة مكافأة لهم ومكان دائم للعرض وترويج وتصريف منتجاتهم.

57 حرفياً

يضمّ سوق المهن اليدوية سبعةً وخمسين حرفياً يعرضون منتجاتهم التراثية يدوية الصنع تحدث عنها أ. "منذر" لمدوّنة وطن: «يضم السوق ركناً خاصاً بصناعة الحرير، يبدأ بالشرنقة وينتهي بحياكة الملابس الحريرية التقليدية، وبعض الشرانق يحولها الحرفيون إلى لوحات فنية إبداعية، أيضاً يوجد ركن لعرض صناعات القش وآخر للخيزران، أيضاً الفضة والأحجار الكريمة تنفرد بركن خاص بها، والكثير من الصناعات الأخرى التي أبدعها الحرفيون، ولجرحى الجيش مكانتهم المحفوظة من خلال مشاركتهم بمصنوعات منوعة صاغتها أناملهم».

لوحات من توالف بحرية

إنجاز السوق هو جزءٌ من الحلم، فتسعة عشر محلاً لن تكون كافية لخمسمئة حرفي وحرفية مسجلين لدى الاتحاد، والتوسع به غير متاح في الوقت الحالي لكن وبحسب أ."منذر" فالسوق يمثل نواةً أولى لانطلاق أسواق متعددة على مستوى المحافظة، إضافةً إلى أن المدينة وما تحمله من إرث حضاري تستحق اختيار مكان على أرض الكورنيش البحري، يقامُ عليه مبنى بانورامي يضمُّ كل الحرف التراثية الفينيقية من الألف إلى الياء، ويكون بمنزلة منارة تطلُّ على هذا الساحل العريق.

قيمة مضافة

المهندسة "إنعام حمودي" التي شاركت بمشروعها "نعومي" للحلي والمجوهرات يدوية الصنع الحائز على الجائزة الأولى للإبداع في معرض "دمشق الدولي"، ومن خلاله تحاول الإضاءة على حرفة فينيقية هامة ومميزة، تقول: «السوق الدائم يوفر فرصة تبادل الخبرات بين الحرفيين، وتطوير العمل لإبراز هوية مدينتهم، وذلك مع تقديم فرصة التدريب للراغبين بتعلم هذه المهن، وبالوقت نفسه يتيح تسويق المنتجات في معلم حضاري يقصده السائح والزائر وابن المدينة، لكنه يحتاج للكثير من العمل لتحسينه وجعله مكاناً يليق بالمدينة وعامل جذب للسيّاح والمقيمين، يجدون فيه الجمال والفن والمتعة ومنتجاً يدوياً يستحق الاقتناء».

وترى "حمودي" أنّ نجاح هذه التجربة سيبرز الحاجة لتعدد الأسواق، ما يساهم في زيادة النمو الاقتصادي والاجتماعي للمدينة، مؤكدة على ضرورة رعاية كل راغب في تعلّم هذه المهن، وإفساح المجال له للمشاركة بمنتجاته، ومع الوقت سيشكل هؤلاء النواة لتكرار هذه التجربة في مناطقهم، بحيث تشكل قيمةً مضافةً في العمل السياحي والتنموي والخدمي والثقافي بالوقت نفسه.

لوحات فنية

من جانبها ترى الحرفية "روجيه ابراهيم" أن سوق المهن اليدوية يشكل بوابةً لمدينتها وواجهةً لإنجاز هام، ومن خلاله تشارك بلوحات صنعتها من شرانق الحرير، وهي حرفة شارفت على الاندثار، وبرأيها فإن هذه المشاركة ستساهم بنفض غبار الماضي عن هذه الحرفة والترويج لها بالشكل الذي تستحقه.

كذلك الحرفي "محمود هلهل" الذي يجد أن السوق وفّر على الحرفيين مشقة التنقل بين المعارض المؤقتة، ليصبح معرضهم الدائم، حيث يشارك فيه بأعمال صنعها من توالفٍ بحريةٍ، وهي عبارة عن لوحات زينة استخدم فيها خامات موجودة على الشاطئ، يقول "هلهل": «الرمل البحري بألوانه، والأصداف وبقايا بعض الكائنات كالمرجان والطحالب المرجانية، ونجوم البحر والإسفنج، هي خامات يقذفها البحر تبقى بلا قيمة إن لم أجمعها وأعمل على تشكيلها في لوحات تحاكي تراث الساحل.. أعمالي مبسطةٌ وبالوقت نفسه تتميز بلمسة جمالية، حفّزت الكثيرين ممن شاهدوها على أن يعملوا مثلها، وهذا ما أخبرني به زوّار السوق، ممن يمتلكون هواية جمع الأصداف».

حاضنة أعمال

يشكل سوق المهن اليدوية أيضاً حاضنةَ أعمال وتدريب بالتعاون مع جمعية المهن اليدوية وهيئة تنمية المشاريع الصغيرة، وهناك عدد من الحرفيين المدربين جاهزون لإقامة دورات تدريبية لمختلف المهن التراثية، كان أولها دورة تعليم حرفة الخيزران، التي لاقت إقبالاً كبيراً من الشرائح والأعمار كافة، وبالإضافة إلى الأهمية التراثية والتنمية المستدامة التي يروّج لها السوق فهو يشكل حاضنةً لأعمال المتدربين الباحثين عن فرصة عمل، فمن خلال المهارات التي يتم تدريبهم عليها يمكنهم تأسيس مشروعهم الخاص، ومن خلال هذا الدعم سيتحول من مشروع متناهي الصغر إلى مشروع صغير بالحد الأدنى.