بات الحجر صديقها الذي يعاندها وتعانده لتشكل منه منحوتات فنية تعبر عن مكنوناتها، والطين معشوقها الذي تتناغم أناملها رقصاً على ذراته بكل فرح. نقلت فنها إلى الأطفال لدعمهم نفسياً، وإعادة زرع بذور الطفولة والمحبة في نفوسهم بعد سنوات الحرب.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع النحاتة "علا سليمان" المقيمة في "ألمانيا" بتاريخ 15 أيار 2019، لتحدثنا عن رحلتها مع الفن، فقالت: «الطفل فنان بالفطرة، فإن وجد من يدعمه ويكترث، فإن الحس الفني يتطور بداخله، والروح الإبداعية تتكون تلقائياً. ولحسن حظي أنني نشأت في مناخ ثقافي داعم، وملاحظ لما أملكه وإخوتي من مواهب وميول وقدرات فنية، فمنذ الصغر كانت جدران منزلي فضائي الرحب وبحري الكبير الذي تمكنت من السباحة والتحلق مع الألوان والريشة بشغف كبير، ولم يسلم جداراً من تشكيلات فنية بالطباشير، وكان أبي كل مدة يعيد طلاء الجدران ويدعوني إلى الرسم من جديد، فالبحر والسماء يعنيان لي الكثير في طفولتي، فقد أدهشتني الغيوم بتشكيلاتها المتغيرة والساحرة، وكنت أحلم بأنني طائر؛ وفي لحظة أتحول إلى سمكة بخيالي، كما أن إبداعاتي الطفولية تنوعت لتشمل الرقص وعرض الأزياء، فكنت أتقمص دور عارضات الأزياء، وأصنع ثيابي بنفسي من ثياب أمي وإخوتي، ولم أوبخ على تجاربي حتى التي لم تكن ناجحة.

"علا سليمان" فنانة تثير الدهشة بأعمالها الفنية الجريئة والمتميزة، فعلى صعيد علاقاتها الاجتماعية، هي رمز بطولي بين أقرانها؛ بسبب جرأتها ورفضها للعادات والتقاليد الاجتماعية البالية، وفهمها الجريء للفن من وجهة نظرها كفنانة من هذا الجيل الذي يشهد تحولات مصيرية. تمتلك خطوطاً دقيقة بأعمالها التي تستحق التقدير، ورغبت بيوم من الأيام أن أرسم غجريتها وجمال روحها وعقلها، كامرأة قوية التفكير وجبارة بإمكاناتها، وقوة اتخاذ قراراتها، فنانة موهوبة تجسد أعمالها حسب نظرتها الفلسفية إلى الحياة

بدأت علاقتي مع الطين والصلصال مبكراً، فعندما كنت أساعد والدي بسقاية الأشجار في حديقتنا، لاحظت أن الماء جرف بلطف بعض التراب من كتلة ترابية كبيرة ليتشكل منه تكوين يشبه الوجه، حاولت حمله ليراه والدي؛ لكن التراب تناثرت حباته، فبدأت أجمع التراب وأجبله مع الماء، وأعدت تشكيل الوجه من جديد، وناديت أبي لرؤيته؛ فقال لي جملة هي التي رسمت دربي: (أنت فنانة عظيمة)، وبالفعل بدأت أول خطوة على درب الفن، فدرست المرحلة الثانوية بمدرسة الفنون النسوية المهنية لكونها أقرب إلى تحقيق حلمي بأن أصبح فنانة، ودخلت كلية الفنون الجميلة في جامعة "دمشق"».

من منحوتاتها

وتتابع: «خلال هذه السنة التقيت معشوقي الطين "الصلصال" الذي تربطني معه حتى اللحظة علاقة حب لا تخمد نارها ولا ينطفئ شغفها، ومدة التعارف بيني وبينه كانت ملأى بلحظات التجلي والحب الصافي، فقررت الارتباط به والاختصاص بقسم النحت، لكن الحياة لها دورها في حرف بوصلة رحلتنا، فاضطررت إلى نقل دراستي إلى جامعة "حلب"، وهناك تابعت قصة حبي مع الطين، أنجبنا العديد من الأطفال السمر سمار البحر ومعطرين برائحة الأرض، فدراستي الأكاديمية للفنون علمتني أن الموهبة وحدها لا تعرف الطيران، إغناء الموهبة بالثقافة الفكرية والخبرة التقنية تمنح موهبتنا الفطرية أجنحة فنحلق في فضاء الفن بحرية، لكن شرط ألا تلغي هذه الثقافة فطرتنا الفنية، عندما تصبح أعمالنا الفنية؛ جسد بلا روح؛ يصبح فناً لا ينبض بالحياة».

وعن رؤيتها للفن، قالت: «هو العالم البسيط الجامع من دون تعقيدات، والمساحة المجردة من كل شيء إلا من الجمال وعالمه الرحب، فهو المناخ الإيجابي الذي يبعث السلام في النفوس، وصلة الوصل بين كل ثقافات العالم، والحامل الأمين لتاريخ البشرية، وهو رسالة الفنان الذي يسعى إلى إيصالها بكل صدق وعفوية، فرسالتي إلى العالم عبارة عن كلمة واحدة (البساطة)، فلنجعل حياتنا أكثر بساطة، الحياة المعقدة التي يعيشها الجميع الآن تغلق أبواب الراحة بوجوهنا، فلا يبقى لنا مخرج إلى الهدوء، وتغيب المحبة خلف تلال الحروب السوداء؛ فلنكن بسيطين لنعيش بهدوء».

التشكيلية "علا سليمان" أثناء عملها النحتي

وعن تجربتها مع الأطفال، أضافت: «الطفل والطين كيانان متشابهان؛ كلاهما نقيان وليّنان؛ يسهل تشكيلهما، لذلك في فترة الحرب التي آلمتنا ومازالت تؤلمنا، ركزت على الطفل، وأردت أن أفعل شيئاً له ليعيش طفولته بسلام وفرح، ويحس بالجمال لا بالقبح، ويكبر كسنبلة لا كبندقية، فانتسبت إلى فريق لدعم الطفل نفسياً عن طريق الفن، وعملت مع أفراده لإعادة زرع بذور الطفولة والطبيعة في داخلهم، فدبكنا ورقصنا وغنينا ورسمنا وكتبنا وفرشنا على خشبة المسرح ضحكاتنا وأحلامنا، وكان ذلك ضمن ورشات عمل منظمة ومدروسة، هؤلاء الأطفال أملنا بمستقبل يشبه وجوههم الوديعة المحبة الصادقة الجميلة».

وعن أدواتها النحتية، قالت: «أدواتي النحتية كانت في أغلب الأحيان أصابعي، وأحياناً أستخدم أدوات خشبية لإظهار تفاصيل طفلتي القادمة إلى الحياة ضاحكة وليست باكية كما أتينا نحن، حيث إنني أقدس الشجرة وأتمنى أن أصبح يوماً من الأيام شجرة باسقة في وطني "سورية"، ورائحة الخشب منذ الطفولة لها معنى القداسة، وأنحت على الخشب بكل خشوع، والحجر صديقي الذي نتخاصم كثيراً ويعاندني وأعانده، لكن في النهاية تجمعنا المحبة، إضافة إلى أن أغلب منحوتاتي وليدة لحظات انفعالية عاطفية واعية لأفكار تضج برأسي، لذلك منحوتاتي لا تمر بمراحل، وإنما تبدأ كنبع فتصبح نهراً، وتنتهي بحراً بهذه الانسيابية. الفرح والحزن أعيشهما بذات التدفق العاطفي، والنحت في أغلب الأحيان وسيلتي للتعبير عن مكنوناتي».

من مشاركاتها بأحد الملتقيات النحتية

النحات "أحمد إسكندر سليمان" قال: «تمتلك النحاتة "علا سليمان" مساحة خاصة تعمل بها؛ اقتطعتها نتيجة جرأتها العقلية أولاً، ثم مهارتها في بناء الكتلة ومنحها ألم الهوية التي تنتمي بجدارة إلى المنجز الأبهى في الأعمال النحتية، وأعني بها الجسد البشري في حالة ذكورته وأنوثته ولحظة حوارهما في الفراغ الذي يجب خلقه في مجتمعات لم تمنح الإمكانية على الشعور به، كما أنها تلتزم كثيراً بالجسد البشري في حالته الكلاسيكية، لكنها تحرره من خلال الحركة التي تمنحه إياها، وتمنحه معالم الهوية التي ينتمي إليها، إضافة إلى أنها تمتلك موهبة وتراكماً معرفياً يحتاج إلى التركيز الذي سرقته الحرب منا جميعاً، ومساحة قصوى من الحرية كي تقول وتكون أفكارها في زمن يؤلمني أنه يضيق رويداً رويداً على البشرية».

التشكيلي "أحمد أبو زينة" قال عنها: «"علا سليمان" فنانة تثير الدهشة بأعمالها الفنية الجريئة والمتميزة، فعلى صعيد علاقاتها الاجتماعية، هي رمز بطولي بين أقرانها؛ بسبب جرأتها ورفضها للعادات والتقاليد الاجتماعية البالية، وفهمها الجريء للفن من وجهة نظرها كفنانة من هذا الجيل الذي يشهد تحولات مصيرية.

تمتلك خطوطاً دقيقة بأعمالها التي تستحق التقدير، ورغبت بيوم من الأيام أن أرسم غجريتها وجمال روحها وعقلها، كامرأة قوية التفكير وجبارة بإمكاناتها، وقوة اتخاذ قراراتها، فنانة موهوبة تجسد أعمالها حسب نظرتها الفلسفية إلى الحياة».

الجدير بالذكر، أن النحاتة "علا سليمان" من مواليد "بانياس"، عام 1988، شاركت بالعديد من المعارض والملتقيات النحتية.