الإبداع لديه حالة متشعبة ومتنوعة، فهو الشاعر والباحث والمؤلف والصحفي، وصاحب الصوت الرخيم الذي أمتعنا طوال واحد وعشرين عاماً قضاها في إذاعة "مونتي كارلو" الدولية، وكان حافزه في كل عمل إيجاد مساحة للمتعة مع الكثير من المعرفة.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 9 كانون الثاني 2018، مع الباحث "فايز مقدسي"، الذي حدثنا في البداية عن شغفه بالتاريخ، فقال: «لأن الإنسان لا يتقدم نحو الأمام إن كان لا يعرف ما خلفه، فإن كتابة التاريخ هي أن نعرف من سبقنا بالوثائق المكتوبة لنتخلص من كل الأكاذيب الشفهية المنقولة والمتداولة عبر الزمن، لضمان غد سليم، فلا مستقبل مشرق بلا ماضٍ صحيح. والتاريخ هو معرفة الذات بكل ما فيها من خبايا وأسرار، حيث إن الذاكرة البشرية تحتفظ بما حدث، لكنها كما قال "علم النفس" بحاجة إلى حافز يدفعها إلى العمل من جديد، ومن لا يمتلك تاريخاً له، فهو كاليتيم، والمؤرخ الحق هو الذي يبحث عن الحقيقة، وليس عن تعظيم عقيدة أو تكذيب مذهب، أو تحوير قصة، وإنما البحث عن الحقيقة الصرفة التي لا تشوبها شائبة.

يمثل حالة غنية من التميز؛ فهو ممن يتقنون مهنتهم إلى درجة الاحتراف، ويمكن القول إن رحلته تفتح أبواب المجهول، فنجد في التاريخ ترانيم تكمل دورة الحياة، وتفتح أبواب الجنة والجحيم معاً، داخل جو عجائبي ينير الطريق لاكتشافات مذهلة. أما كتاباته الأدبية، فهي تحمل سحراً عميقاً من الحداثة، بلغة جديدة، وموسيقا خاصة تناسب روح العصر، وتبحث عن حقيقة الوجود، وكانت رحلته الإعلامية حافلة بالعطاء، حيث ارتبطت عدة برامج باسمه، وكان يختار ضيوفه بعناية مكنته من إقامة جلسات حوارية غنية بالمعرفة، ليتوجه بها إلى جمهور عريض من المستمعين التواقين إلى النقاش

وتشير الوثائق المكتوبة والمكتشفة اليوم حول الكثير من المدونات المسمارية والأبجدية في كل أرجاء "سورية" الطبيعية، إلى زيف العديد من الأحداث والقصص، حيث تحتوي المناهج الكثير من اللغط، كما أن هناك الكثير من الكذب في كتب بعض المؤرخين الذين لهم هدف عقائدي لا علاقة له بالتاريخ الصحيح، وقد سعيت في كل أعمالي إلى نفض الغبار والغشاوة التي تشوه الحقائق وتغير الوقائع».

الحبل بلا دنس

وحول عمله في إذاعة "مونتي كارلو"، قال: «كان عملي الإعلامي تجربة مفيدة، حيث عملت كمعدّ ومقدم برامج منذ عام 1989، وقد مكنني عملي من اكتشاف النفس البشرية التي تتضح من خلال معرفة حجم الكذب في الأخبار، وأعدّ أسوأ شيء في المجال الإعلامي الصحفي المتزمت، حيث يجب أن يكون الصحفي متحرراً، ويخاطب الناس باحترام وصدق. وقد عملت في تقديم البرامج الثقافية، وقدمت عدداً من البرامج، وهي: "العوالم السحرية"، و"حكاية حجر"، و"دروب القمر"، و"مسافات"، و" فصول"، و"أمواج"، و"سوناتا ليلية"، و"أفكار"، و"أنتم والنجوم"، و"حوار". وكنت أعدّ نفسي في كل برنامج أمام تحدٍّ من نوع خاص حول كيفية تقديم برنامج موسيقي أو حواري أو علمي بلغة غنية وبسيطة، تضمن رسالة ثقافية ترسخ في ذهن الجمهور، وتساهم في تكوين حالة وعي عامة. أما اليوم، فأقوم بممارسة طقوسي السحرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما أنشر عدداً من المقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية».

أما عن طفولته، فقال: «عشت طفولة جغرافية غنية، حيث كان عمل والدي في جهاز الشرطة، وكانت التنقلات فرصة للتعرف إلى كل أرجاء "سورية"، حيث كان يتم نقله كل عامين من مكان إلى آخر، وكنّا أحياناً نقطن في قرى صغيرة، ولما كنت أحب الطبيعة والحيوانات الأليفة، وصاحب نزعة انفرادية منذ الصغر، فكنت كطفل أبحث عن أسرار وجود ما أراه حولي، لا عن فرصة للعب. كما كنت قارئاً نهماً، وقد قرأت كل ما وصل إلى يديّ، واستمعت بعمق إلى حكايات جدتي التي كانت حافلة بالغرائب والعجائب، لذلك تركت كلمة سحر تأثيراً كبيراً في حياتي، دفعتني إلى كتابة الشعر الذي لم يكن يعجب المعلمين في المدارس؛ لما فيه من ابتعاد عن المألوف واتجاه نحو الغموض، واستعمال كلمات غير متداولة بحثاً عن أسلوب جديد خاص بي.

سيماء أبجدية الأفعى

وكان لقرية والدتي القريبة من "جسر الشغور" أثر لا ينسى في حياتي كشاعر، حيث كنا نقضي الصيف في الحقول، وقرب ينابيع المياه، وتركت بصمات الطبيعة أثراً ساحراً في روحي، ولها الفضل في معظم صوري ومحاكاتي الأدبية، وبحثي عن حقيقة الوجود والإنسان وسحر الكلمة».

وحول أعماله والكتب التي صدرت له، أضاف: «صدرت لي أربعة كتب شعرية، وعدة كتب عن تاريخ "سورية الطبيعية"، وعدة ترجمات بالعربية عن شعراء أوروبيين، وأبرز كتبي: "سيمياء أبجدية الأفعى"، و"الحبل بلا دنس"، و"الحياة السحرية"، و"بعل وموت"، و"الأصول الكنعانية للمسيحية"، و"قصائد أوغاريتية"، و"الساعة الناقصة". ولي في مجال الأبحاث التاريخية نحو 30 بحثاً؛ نشرت في مجلة "المعرفة" السورية.

وقد انتهيت من كتابة كتاب شعري مطول، سأعمل على نشره قريباً، وقد ساعد اهتمامي باللغات الشرقية القديمة والشعر الكنعاني، على ترجمة العديد من القصائد من لغات مختلفة، كالفارسية والتركية والأوغاريتية، لإيماني العميق بأن اللغة تسمح لنا أن نلج إلى بواطن الأمور».

الإعلامي "جودت غانم" تحدث عن عمل الباحث "فايز مقدسي" بالقول: «يمثل حالة غنية من التميز؛ فهو ممن يتقنون مهنتهم إلى درجة الاحتراف، ويمكن القول إن رحلته تفتح أبواب المجهول، فنجد في التاريخ ترانيم تكمل دورة الحياة، وتفتح أبواب الجنة والجحيم معاً، داخل جو عجائبي ينير الطريق لاكتشافات مذهلة. أما كتاباته الأدبية، فهي تحمل سحراً عميقاً من الحداثة، بلغة جديدة، وموسيقا خاصة تناسب روح العصر، وتبحث عن حقيقة الوجود، وكانت رحلته الإعلامية حافلة بالعطاء، حيث ارتبطت عدة برامج باسمه، وكان يختار ضيوفه بعناية مكنته من إقامة جلسات حوارية غنية بالمعرفة، ليتوجه بها إلى جمهور عريض من المستمعين التواقين إلى النقاش».

بقي أن نذكر، أن " فايز شفيق مقدسي" ولد في محافظة "دير الزور" عام 1949، وهو من قرية "صافيتا" في "طرطوس"، وقد أتم دراسته الثانوية في محافظة "حلب"، ثم أقام في "باريس" منذ عام 1972، ويحمل دبلوماً في التاريخ العربي القديم واللغات السامية المقارنة من جامعة "السوربون"، الجامعة "الكاثوليكية"، وعمل في الصحافة المكتوبة وأستاذاً للغة العربية.