عناء السفر إلى "اللاذقية" من أجل التحصيل العلمي، لم يمنع "سليمان الياس" من الحصول على الشهادة الابتدائية، وأكمل مهمته بتدريس أطفال قريته "الفيحاء" في منزله حتى المرحلة الثانوية، مع متابعته لدراسته الخاصة ليتوّج تحصيله الأكاديمي بشهادة الحقوق على الرغم من كبر سنّه ومسؤولياته.

في قرية "الفيحاء" التابعة لبلدة "الروضة" بمنطقة "خراب مرقية" ولد المدرّس "سليمان الياس" عام 1923، ولشغفه بالثقافة زمن الفقر والحاجة تابع تحصيله العلمي في "اللاذقية" حيث كانت "طرطوس" تتبع إدارياً إليها، وهذا بحسب حديث ابنته المعمرة "ليلى الياس"، خلال لقاء مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 15 أيار 2017، وتابعت: «ولد والدي في القرية بعد أن قَدم جدي من "قضاء اللاذقية"، تاركاً معارفه وأصدقاءه وبعض أقاربه هناك، حيث كانت الظروف المعيشية صعبة جداً؛ وهو ما حفز والدي على الانطلاق للتحصيل العلمي على الرغم من صغر سنه، وتحمل مشاق السفر البعيد لتغيير هذه الظروف، وكأنه كان يدرك أهمية التعلم في تحسين مجريات الحياة، لكن ما بسط الأمور وجود أصدقاء وأقارب هناك.

في البداية وقبل أن يكون لنا غرفة ندرس فيها كان المربي "الياس" يلقننا العلوم في الطبيعة تحت ظل الأشجار وأحياناً في صالة الكنيسة، وفيما بعد ضمن غرفة صغيرة في منزله، مع الاستمرار بالدروس في الطبيعة بين الحين والآخر كنوع من التحفيز على التحصيل العلمي

وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية بدأ تدريس أطفال القرية تطوعاً ضمن غرفة في منزل أسرته، لتخفيف عبء التنقل وتحسين الظروف التعليمية بالنسبة لهم؛ وهذا شجعهم على الإقبال من أجل التحصيل العلمي، وفعلاً كان له ما أراد على الرغم من عدم توفر مقومات التَعلم في "الفيحاء" أو "الروضة" من مدارس ومدرسين وغيرها، فكان من الرعيل الأول الذي درس في القرية، لأنه من أوائل المتعلمين في المنطقة بحسب الأحاديث المتناقلة بين معمري القرية».

ليلى الياس

مختار قرية "الفيحاء" "جرجس برهوم" أحد أبناء القرية الذين تعلموا لدى المدرّس "الياس"، أكد أنه تلقى بعض مناهجه الدراسية في الطبيعة، حيث كان مدرّس القرية الوحيد حينئذٍ يشملهم في نشاطات تعليمية تحفيزاً على التعلم، وتابع: «في البداية وقبل أن يكون لنا غرفة ندرس فيها كان المربي "الياس" يلقننا العلوم في الطبيعة تحت ظل الأشجار وأحياناً في صالة الكنيسة، وفيما بعد ضمن غرفة صغيرة في منزله، مع الاستمرار بالدروس في الطبيعة بين الحين والآخر كنوع من التحفيز على التحصيل العلمي».

ويضيف: «جميع أطفال القرية كانوا يهابونه لصرامته ومتابعته الدائمة لتحصيلهم العلمي حتى في منازلهم، وأنا واحد منهم، فهو نذر نفسه لتعليمهم ونشلهم من الفقر وتحسين ظروفهم العامة، وهذا جعل الأهالي يشعرون بالراحة، فراحت كل أسرة تقدم له ما تستطيع من منتجاتها الزراعية أو الحيوانية أو مالها مهما قل؛ وهو ما ساعده على استئجار غرفة كبيرة للتدريس فيها، وخلال هذه المرحلة كان يتابع تحصيله العلمي الأكاديمي ما بعد الثانوية وهو متزوج ولديه أبناء، حيث دخل كلية الحقوق وأنهى سنواتها الأربع بكل جدية وبراعة، ومع هذا تابع في تدريس الأطفال ضمن مدرسة رسمية حكومية حتى أصبح مديراً لها، واستمر حتى التقاعد».

المختار جرجس برهوم

لم يكن المدرّس "الياس" مجرد معلم لأطفال القرية، وإنما كان المرشد والناصح للأهالي، عنه قالت ابنته "ليلى": «لقد اكتفى والدي ذاتياً من مختلف النواحي، ولم يكن ينظر إلى الدنيا نظرة دنيوية وإنما سماوية، فقدم المساعدة للجميع، وكان كاتب وقارئ رسائلهم لأبنائهم في المغترب باللغتين العربية والإنكليزية، وكذلك مرشداً نفسياً واجتماعياً يلجأ إليه الأهالي لاستشارته في همومهم ومشكلاتهم ومساعدتهم على إيجاد الحلول، لما تمتع به من ثقافة بمختلف الاختصاصات، ومنها الطبية عبر المجلات التخصصية، فهو امتلك ملكة حفظ كبيرة ساعدته في التثقف الذاتي المستمر، وانعكس هذا على مجتمعه المحيط».

الموظف "جرجس جبارة" من أهالي القرية وأحد تلاميذه، قال: «أذكره جيداً بإيجابياته الكثيرة التي غيرت أحوال القرية، ومنها تأليفه للأناشيد والقصص والمسرحيات التي تقدم في مختلف المناسبات الاجتماعية والوطنية، كما أنه كان متحدثاً تنصت له الآذان في المجالس بما اختزنه من ثقافة عامة تغني المتلقي بلغة فصيحة وحكم اجتماعية، حيث كان يقصد لأجل هذه الغاية في كل مساء تقريباً».

جرجس جبارة