حكمٌ تربوية قدّمها المربي "محمد علي أحمد" دروساً كخُلاصة لمعرفته، وألّف كتاب "الأدوات في اللغة العربية" قدّمه هدية لدارسي وطلاب اللغة العربية، كما تعلّم وعلّم في جلسات شيخ الكتاب، وبلور إمكانياته بشهادة أهلية التعليم.

حضوره كان مميزاً بحسب وصف نجله "ياسين أحمد" لمدونة وطن "eSyria"، بتاريخ 28 آذار 2017، ويقول: «تعلّم والدي قراءة القرآن الكريم على يد عمّ والده الشيخ "سلمان أحمد منصور"، والكتابة على يد الشيخ "إبراهيم يوسف"، وتلقّى علومه على يد العالم الشيخ "محمود سليمان الخطيب" في قرية "جيبول" بريف مدينة "جبلة"، وقواعد اللغة العربية على يد الشيخ "أحمد عبد الله" في قرية "العنازة"، فحفظ القرآن ونهج البلاغة وديوان المنتجب وديواني المكزون والمتنبي، ونظم الشعر مبكراً؛ لما امتلكه من مخزون فكري وثقافي عالٍ.

حازَ والدي ثقة أهالي التلاميذ بإخلاصه وتفوّقه، ومن أبرز الذين تحدّثوا في مجالسهم عن فضله في تعليمهم: الشيخ "محمود مرهج"، و"محمد صبح" الموجّه التربوي المعروف

وفي ثلاثينيات القرن الماضي كان الشيخ "صالح علي سلمان عمران" من قرية "الصومعة"، في منطقة "صافيتا"، يُلقي دروساً في بيت المجاهد الكبير الشيخ "صالح العلي" لفتيانٍ من منطقة "الشيخ بدر" وما حولها في علوم القرآن واللغة العربية، وقد حضرها والدي مع شابين صغيرين من القرية، ونجح في اختبار حفظ القرآن الكريم الذي أجراه ذاك العالم والباحث، ونال تقدير الشيخ المجاهد وتكريمه، وقد أخبرني الشيخ "صالح عمران" قبل أكثر من عقدين من الزمن، أنَّ الوعي المبكّر هو الذي كان يطبع سلوك وحياة والدي الراحل».

المهندس ياسين محمد أحمد

وفي سنة 1940، بدأ يعلّمُ قواعد اللغة العربية والإملاء والخط في قريته "بحنين" والقرى المجاورة، عبر مجالس الكُتّاب الشعبية، حيث أضاف ابنه "ياسين": «حازَ والدي ثقة أهالي التلاميذ بإخلاصه وتفوّقه، ومن أبرز الذين تحدّثوا في مجالسهم عن فضله في تعليمهم: الشيخ "محمود مرهج"، و"محمد صبح" الموجّه التربوي المعروف».

ومع انتشار المدارس تضاءل عدد تلاميذ الكُتّاب، وازداد عدد أفراد الأسرة، ومع ذلك كانت له انطلاقة جديدة نحو التحصيل العلمي؛ بحسب حديث "ياسين"، حيث قال: «شجّع مدير "مدرسة بحنين" المربي "جعفر سلمان" من قرية "البرازين" في منطقة "جبلة" والدي على الدراسة، فنال الشهادة الابتدائية عام 1952، ثم تقدم لامتحان الشهادة المتوسطة، ونجح فيها عام 1954، وكانت أسماء الناجحين آنذاك تُذاع في الإذاعة السورية، فجاءه بالبشرى صاحب جهاز الراديو الوحيد في "بحنين"، وبعدها نال الثانوية العامة وأهلية التعليم، وجلّ ما ساعده في تحصيله تعمقه بحفظ القرآن الكريم وقواعد لغته العربية عبر مجالس الكتّاب التي ترعرع ودرس فيها.

المدرّس جابر سلامة

وبعد نجاحه في مسابقة انتقاء المعلمين عُيّن في قرية "خربة الروس" قرب "منبج" في محافظة "حلب"، فكان المعلم المؤسس؛ لأن المدرسة كانت مُحدثة، وكان عليه أن يُقنِع أهالي القرية بإرسال أبنائهم إلى المدرسة؛ وهذا ما تمّ فعلاً، وساعده في ذلك حفظه للقرآن ونهج البلاغة، وإهدائهِ نسخاً منهما للآباء، وعمّقت عفّة نفسه تأثيره فيهم، واحترامهم له. وعندما نُقلَ إلى محافظة "اللاذقية" بعد أربع سنوات، ترك مدرسة مزدهرة وطلاباً يقرُّون بفضله، حتى إنه بعد مرور ما يقارب نصف قرن زاره الشيخ "ذياب الماشي" عضو "مجلس الشعب" برفقة بعض الأعضاء تقديراً وعرفاناً بالجميل».

وتابع المربِّي "محمد" رسالته التربوية والمعرفية في محافظة "اللاذقية" قرية "عين طنطاش" قرب "صلنفة" لعامين، ثمّ نُقل إلى مدرسة "بحنين" معلّماً في ابتدائيتها، ثمّ أميناً لمكتبة ثانويتها، حيث حض على القراءة والمطالعة عبر الاستعارة من تلك المكتبة، وتابع "ياسين": «لم تتوقَّف مهمّته التربوية عند التقاعد، حيث لم يكن صاحب وظيفة، بل صاحب رسالة، فانخرط في معركة الإصلاح الاجتماعي والديني، نبذ الخرافات، والتعصّب الذميم للطائفية والعشائرية، وكافح العادات السيئة، وتصدّى لكافة الأمراض الاجتماعية، ودعا إلى العلم والفضيلة ومكارم الأخلاق، واستخدام العقل السليم المعافى في مسيرة الحياة، وصاغ فلسفته الحياتية بأبيات من الشعر، منها:

المدرّس محمد علي يونس

"عَن العِلْمِ لا تَكسَلْ ولا تَكُ لاهياً فإنَّ العــلا لا ترتقيـــها براحـــةٍ

وعــشْ طــالباً للعلمِ مجتهداً لـهُ وجــدَّ إلى العَلْيَاءِ بالتَّعبِ المُــرِّ

ولابدَّ دونَ اليُسْرِ من ألم العُسْرِ لتحيا حياةً لا تموتُ مدى الدَّهْرِ"».

وعن علاقة المربي "محمد" بأسرته وتنشئتها، تابع "ياسين": «كان لنا أباً حنوناً، ومعلماً قدوةً، ومرشداً حكيماً، سلاحهُ الحرف، وعدّتهُ العطاء، وزادهُ المعرفة، وكان مكتبةً متنقِّلةً، غنيَّة العناوين، ثريَّة المضامين، لسانُ حالها يقول: "إنَّ مجد الإنسان الحقيقي، لا يكونُ إلاَّ حين يمنح شيئاً مفيداً". وآمن بأنَّ الحياةَ لا ترتقي، إلاَّ بالارتقاء بالوطن، وتحصين أجياله بقيم الحقّ والخَير والجمال. وساهم مع رفاقه الروّاد الأوائل في زيادة وعي أجيال عديدة».

وفي مطلع الألفية الثالثة، وبعد أن تجاوز الثمانين من العمر، عمل المربي "محمد" على إعداد كتاب: "الأدوات في اللغة العربية"، وقال المدرّس المتقاعد "جابر سلامة": «بعد إنجاز هذا الكتاب القيِّم بقواعد اللغة العربية ونحوها قدّمه هدية لدارسي العربية وطلابها ومحبيها ووزارة التربية ومديرياتها في مختلف المحافظات، آملاً أن يكون قد قدّم خدمةً لأبناء بلده».

ويتابع: «كان المربي "محمد" شاعراً مرهف الحسّ، وواسع الخيال، وصائب القول، فنظم الشعر العربي في مختلف أغراضه؛ وهذا انعكس على تلاميذه إيجاباً وإبداعاً حتى ارتقوا في العلم إلى درجات عالية بفضل توجيهاته، ومنهم ولداي الطبيبان».

أما مدرّس اللغة العربية "عيسى حبيب"، فقال: «لم يكتفِ المربي "محمد" بإصدار طبعة من كتابه الخاص باللغة العربية، بل قدم أيضاً على نفقته الشخصية 3000 نسخة مجانية من كتاب في الأدوات النحوية، هدية لمديريات التربية في مختلف المحافظات؛ لأنه حمل الكلمة بمداها الواسع، وتغرب خلف شغافها، ونال التقدير الرسمي على هذا العطاء».

ويقول المربي "محمد علي يونس"، موجّه اللغة العربية السابق: «كان من روَّاد التربية في المحافظة والمحافظات السورية الأخرى، فكان المثل الجيّد، والقدوة الحسنة، في جدّه وعطائه، وتحصيله العلمي والتربوي، ومسيرته التربوية الطويلة التي قضاها في العمل الجادّ الدؤوب لتنشئة جيل صالح، قائم على القيم الروحية والإنسانية المثلى، التي لا تكتمل إنسانية كل واحد منَّا إلاَّ بها».

الدكتور "بسام عبد الله" من طلاب المربي "محمد علي أحمد"، قال: «لم نرَهُ يوماً متململاً من الحصة التعليمية، بل على العكس كنا نراه الحكيم، وننتظر مقولاته وأحاديثه المتعلقة بالدرس والحياة معاً؛ وهذا ما دفعنا إلى التعلق بما نتابع تعليماً ليكون درساً حياتياً يؤثر إيجاباً في تعاملاتنا اليومية، حتى غدونا طلابه المتفوقين الحاملين والناشرين لأفكاره وعلمه».

يذكر أنّ المربي "محمد علي أحمد" من مواليد قرية "بحنين" عام 1922، وقد توفي في شباط عام 2015.