إلى الشرق من قرية "أم رواق"، وعلى الضفة اليسرى لوادي "الشام"، فوق منحدر صخري انهدامي شديد الانحدار، نهضت تلك المساكن البازلتية المتلاصقة التي شكلت حارات تفصل بينها أزقة ضيقة تخترق الجرف الصخري الطبيعي.

مدونة وطن eSyria التقت الأستاذ "وليد جابر أبو رايد" الباحث في الآثار، بتاريخ 20/4/2013 الذي تحدث عن بداية تشكل "الدياثة"، فقال: «تكثر في الموقع الملاجئ الطبيعية مثل المغاور والكهوف التي قصدها الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ كمكان للسكن والاختباء من أخطار الطبيعة وحيواناتها المفترسة، وقد ترك آثاره على جوانب جدرانها التي تبدو بوضوح آثار تحسينها وتشذيبها، بالإضافة إلى تحسين وبناء مداخلها بالحجر، ثم خرج إلى المحيط فبنى البيوت الدائرية بالكتل البازلتية الضخمة ذات السقف المنخفض والمدخل الوحيد، حيث عثرنا على نموذج منها إلى الغرب من الموقع الحالي بحوالي 800 م عند منحدر الوادي الشمالي وهو يعود من حيث الطراز إلى الألف الثالث قبل الميلاد. ولم تكن المغاور والكهوف السبب الوحيد في سكن الموقع بل تشكل المياه الحافز الأول للاستيطان البشري بالقرب منها، فالوادي الموسمي الغزير ذو السرير العريض الذي يمكن استغلاله بالزراعات الصيفية والآبار الطبيعية العميقة المتفجرة في قعر الوادي والتي لا تجف، كانت العامل الأساسي في استقطاب البشر واستقرارهم».

يعد هذا الموقع الأهم من بين كل المواقع الأثرية في جنوب بلاد الشام، من حيث التكامل المعماري والتسلسل التاريخي الذي يغطي معظم العصور التاريخية للمنطقة والتكامل المعماري، ونظم جر المياه واستغلالها، والحفظ المميز لآثاره رغم التعديات المتعددة التي لا يخلو منها موقع أثري، والتي تدفعنا إلى العمل بجد لتأهيل هذا الموقع بعد حمايته وترميمه واستكمال الدراسات حوله لأن يكون موقعاً سياحياً هاماً على الخارطة السياحية للمحافظة، يستقطب الوفود السياحية الداخلية والخارجية ويشكل رافداً هاماً للاقتصاد المحلي لسكان المنطقة

وعما يوجد في القرية وطرق البناء فيها، يضيف: «تتألف القرية من بيوت طابقية تصل إلى طابقين في معظمها أو ثلاثة، فالطابق السفلي عبارة عن زرائب للماشية تكثر فيها المعالف والكوات، والطابق الثاني أو الثالث (إن وجد) استخدم للسكن، فكان للمنزل باب وحيد مؤلف من درفة حجرية أو اثنتين يتجه غالباً نحو الشرق أو الجنوب، أي باتجاه الانحدار الصخري. تعود القرية الحالية إلى العصر النبطي وقد استنتجنا ذلك من خلال مظاهر وأسلوب البناء وتأمين المياه وطرائق جرها واستصلاح مساحات الأراضي القابلة للزراعة في سرير الوادي وتقسيمات الأراضي والحدود بينها وتجميع الرجوم الصغيرة، حيث نلاحظ بوضوح مثل هذه التقسيمات إلى الشرق من الطريق الواصل إلى الموقع».

برجي بوابة الحصن.

ويتابع قائلاً: «يدور جدل كبير بين علماء الآثار الغربيين والسوريين حول التأريخ الأساسي للموقع، حيث يصر العلماء الغربيون على أن الموقع قد تأسس في العصر الروماني وليس قبل ذلك، رغم أننا قدمنا حججاً وبراهين على الأساس النبطي لأكثر الأبنية، خاصة عثورنا على كسر فخارية تؤرخ في هذا الزمن، ومنها عدد من الكسر الفخارية المعروفة من هذا العصر والتي استوردت من اليونان في ذلك العصر. إضافة إلى استنباط الماء من تلك الآبار المثيرة، والتي ما زال بعضها يخزن الماء حتى يومنا، وتنتشر مثل هذه الآبار ذات الأبواب الضيقة المشكلة من إطار بازلتي في كل المواقع النبطية الجنوبية إلى جانب المنازل الطابقية ذات الدرج الداخلي وهو طراز نبطي بلا شك. أضف إلى ذلك مداخل المغاور والكهوف التي بنيت بالحجر المنحوت وسدت بدرفة حجرية منحوتة استغلها البشر كمستودعات وزرائب ثم استغلها الرومان فيما بعد كمقر لحامية الجيش الروماني الذي تولى حماية تخوم البادية الشرقية في الولاية العربية الرومانية، فأضافوا إلى المساكن الأقدم التي حسنوها الحصن. وترقى أقدم الآثار في الموقع إلى عصور البرونز 3100-1200 قبل الميلاد مما يثبت قدم الموقع وتأسيسه في وقت مبكر جداً، فقد عثرنا على أطلال منزل ذو مسقط دائري الشكل مبني من كتل بازلتية محلية كبيرة غير مشذبة أو موجهة إنما منتقاة بعناية لتتلاءم مع الوظيفة المعمارية للمنزل».

وتابع: «بني المنزل على كتف الوادي الشمالي في نقطة مرتفعة تشرف على الوادي، وتراقب كل ما يتحرك في سريره، وينفتح بابه المنخفض على شكل السنام نحو الجنوب (نحو الوادي) مؤلف من حجرين كبيرين جانبيين يعلوهما الساكف الضخم وليس للباب درفة حجرية لتسده. ويؤدي الباب إلى داخل المنزل المؤلف من حجرتين كبيرتين سقفهما محمول على عمود مركزي وميازين وأظفار جدارية جانبية ويتألف السقف من ربدات بازلتية كبيرة وثقيلة.

منزل طابقي من الداخل.

وقد تعرض المنزل للحفر السري والتخريب من الداخل ما أدى إلى انهيار سقفه ليتعذر الدخول إليه. ينتمي هذا النموذج إلى نماذج مساكن عصور البرونز في "السويداء" والتي تنتشر في "اللجاة" و"الهبارية" و"الإمباشي" و"أم رواق" وغيرها، وهي ذات مسقط دائري لها مدخل وحيد غير محدد الاتجاه على شكل سنام منخفض جداً يضطر المرء للانحناء الشديد ليتمكن من الدخول إلى المنزل».

وفيما يتعلق بالرومان وما تركوه في هذه القرية، يؤكد "أبو رايد" ذلك، ويقول: «إلى الشمال من المنازل المذكورة يقوم الحصن المعروف محلياً باسم سور "الدياثة" وهو حصن دفاعي للحامية الرومانية أسس في هذه المرحلة بغية حماية التخوم الشرقية للبادية التابعة للولاية العربية الرومانية، وهو مؤلف من سور دفاعي مرتفع وسميك تدعمه أبراج دفاعية عالية على الزوايا الركنية الأربعة، وبرجين يتوسطان الضلعين الطويلين في الغرب والشرق، وبرجين عاليين يحميان البوابة الشمالية الرئيسية والتي تفضي إلى منازل القرية القديمة. على جانبيها من الداخل يقوم درج داخلي غرست درجاته في بطانة الجدار الداخلي، يقابله من جهة الشمال داخل السور غرف الجنود.

الحي السكني المقابل للحصن من الجنوب

يلحق بالحصن من الخارج عند الجهة الغربية غرف إضافية يبدو أنها إسطبلات لخيول الحامية العسكرية. ومثلها من جهة الشرق. بنيت عند حافتي الوادي من الجنوب والشمال وفي وسط الوادي قنوات مائية تجر الماء إلى مطاحن الحبوب التي تعمل بقوة الماء. وتعود بقاياها الحالية للعصرين الروماني والإسلامي. إلى جانب الآبار القديمة التي حفرت في العهد النبطي واستمر استخدامها إلى زمن قريب».

وعما يميز هذا الموقع، قال الدكتور "علي أبو عساف" المتخصص بالآثار في المنطقة الجنوبية: «يعد هذا الموقع الأهم من بين كل المواقع الأثرية في جنوب بلاد الشام، من حيث التكامل المعماري والتسلسل التاريخي الذي يغطي معظم العصور التاريخية للمنطقة والتكامل المعماري، ونظم جر المياه واستغلالها، والحفظ المميز لآثاره رغم التعديات المتعددة التي لا يخلو منها موقع أثري، والتي تدفعنا إلى العمل بجد لتأهيل هذا الموقع بعد حمايته وترميمه واستكمال الدراسات حوله لأن يكون موقعاً سياحياً هاماً على الخارطة السياحية للمحافظة، يستقطب الوفود السياحية الداخلية والخارجية ويشكل رافداً هاماً للاقتصاد المحلي لسكان المنطقة».