اسم يتردد على أفواه الباحثين في التاريخ وحركات التحرر من الاستعمار، فقد دارت على أرض الكفر أول معركة بين ثوار الجبل والقوات الفرنسية بعد أن حاصروا الحامية الفرنسية في صلخد، فاقترن اسمها بمفاخر الجبل في عنفوان أهله والذود عن حياض الوطن رغم القهر والاستبداد والظلم.

"ولهذه البقعة من الجبل الأشم تاريخ ناصع ومساهمات قيمة في حضارة المنطقة، فقد قطع أهلها رحلة وعرة عبر القرون، تطورت خلالها المنطقة من حالة البداوة إلى الاستقرار والتحضر وشهدت كغيرها من مناطق بلاد الشام نزاعات بين الممالك الكنعانية من الألفين الثالث والثاني ق.م دافعها العصبية القبلية والمنافع الاقتصادية"... والقول للدكتور علي بوعساف الباحث التاريخي- مدير عام الآثار والمتاحف الأسبق، وتابع لموقع eSuweda بأسلوبه الشيق الرشيق مسهباً وموغلاً في تاريخ الكفر والمنطقة قائلاً: وخاضت المنطقة حروباً ضد فراعنة مصر، أما في الألف الأول ق.م فقد كانت حوران جزءاً من مملكة آرام الدمشقية التي غزاها الآشوريون طول قرنين من الزمن إلى أن أخضعها تجلات فلصر عام 732-731 ق.م وحوّلها إلى ولاية آشورية مقرها الشيخ سعد.

ولقد عاشت أجيال هذه المنطقة تحركات قبلية من الجنوب نحو الشمال كان أبرزها هجرة قبيلة جيدار أو قيدار عند مطلع الألف الأول ق.م التي تعايشت مع القبائل الآرامية في الجنوب وكان لها دور في عمران حوران ومقاومة الآشوريين وقد أفضى التعايش بين القبائل العربية والآرامية إلى تبني القبائل العربية للخط الآرامي وقد جسد الأنباط هذه العملية في كتاباتهم التي سنتطرق إليها فيما بعد.

قليب الكفر

ولقد تعايشت القبائل العربية مع أخواتها الآرامية بضعة قرون ولما سقطت دمشق بيد تجلات فلصر، تراجع النفوذ الآرامي لتحل محله سلطة القبائل العربية ولكن من غير أن تفقد الكتابة الآرامية دورها، ووجد ذلك بصمته في أسماء بعض المواقع مثل خلخله وبثينه وجيدار (أم قيس الحالية) التي كانت مدناً لعشائر قبيلة الجيدور التي ساعدها تمركزها في منطقة جغرافية مميزة فيها اللجاة والسهول الخصبة والبادية، على مقارعة الآشوريين كراً وفراً.

ونحن نرى في هجرة الملك الكلداني نبونيد 555-539 ق.م إلى واحة التيماء بين بلاد الشام والحجاز، نقطة تحول هامة في تاريخ حوران وجنوبي بلاد الشام عامة، فقد استقر نبونيد في واحة التيماء عشر سنوات قام خلالها بتنظيم التجارة بين شبه الجزيرة العربية والبحر المتوسط عبر موانئ الخليج وبحر العرب بعد أن عرقل الأخمينيون الفرس حركة التجارة عبر الخليج وبلاد الرافدين وحلب وأنطاكية.

شلالات وادي الكفر

ويتابع الدكتور بوعساف: ومع هذه الواقعة بدأت في النصف الثاني للقرن السادس ق.م حركة تنشيط سير القوافل التجارية من شواطئ الجزيرة العربية إلى شواطئ البحر المتوسط التي كانت قائمة عبر العصور التاريخية الأقدم ومثالنا عليها ما ورد في قصة يوسف الصديق الذي انتشله التجار وباعوه في مصر.

تولى الأنباط عملية تسيير القوافل التجارية بين الجزيرة العربية والبحر المتوسط عبر بلاد الشام الجنوبية، وبكفاءة عالية وقدرة على تأمين الخدمات المتنوعة للقوافل مثل المياه والمزودة والأعلاف انطلاقاً من كبرى مدنهم البتراء أو السلع.

من معالم الجبل

وفي بداية عهد الإسكندر الكبير عام 330 ق.م وخلفائه ظل الأنباط أسياد التجارة في بلاد الشام والجزيرة وتعاملوا مع الوضع السياسي السلطوي الجديد بوعي وإدارة وحتى عندما كانت النزاعات بين البطالمة في مصر والسلوقيين ببلاد الشام الشمالية تشتد، تمكن الأنباط من الخروج منها بأقل الخسائر في حركة تنظيم سير القوافل.

وفي معمعات مراحل الصراعات في فلسطين بين المكابيين والسلوقيين هاجم المكابي الاسكندرياناي 102-76 ق.م النقب وانتزعها من الأنباط الذين استعادوها في عهد ملكهم عبيد الأول عند مطلع القرن الأول ق.م ونحن نرى في هذه الحوادث إنذاراً شديداً وقوياً للأنباط بأن خطوط سير قوافلهم عبر النقب أصبحت مهددة وأصبح لزاماً عليهم اتباع طرق جديدة، فجاء الحل على يد الحارث الثالث 85-60 ق.م، الذي وصل بجيوشه إلى دمشق وأخضعها، فأمن طريق القوافل إليها عبر أم الجمال وبصرى والسويداء ودبة بريكة فأطراف اللجاة الشرقية إلى دمشق.

ومنذ الحارث الثالث أحكم الأنباط سلطتهم السياسية على حوران، التي كانت منذ قرنين من الزمن قد اصطبغت حضارتها بالحضارة النبطية مثل الاستفادة من مياه الأمطار في الشرب والسقاية، واستخدام الحجر في البناء، أي في جميع عناصر البناء من أساسات وجدران وسقوف وأبواب ونوافذ.

وأضاف: لقد تأثر بناء الحضارة في هذه المنطقة بالصراع بين اليونان، صاحبة أقدم حضارة في أوروبا، والرومان الذين أخذوا يظهرون على الساحة الأوروبية كمنافس قوي لليونان، ما لبث أن أخذ يدحرهم ويحل محلهم في بلاد الشام. ففي عام 64 ق.م قضى القائد الروماني بومبيوس على السلوقيين وأحدث الولاية السورية التي لم تشمل حوران. وكان من الطبيعي أن يحصل الصدام مع الأنباط ففي عام 62 هاجم القنصل الروماني آميليوس سكاريوس البتراء ولم يدخلها بل اكتفى بالجزية.

إن تفكك البلاد وظهور سلطات عشائرية في بلاد الشام الجنوبية مثل سلطة اليطوريين في البقاع وجبال لبنان الشرقية والأدوميين بفلسطين والأنباط حولهم، قد سهل على الرومان محاربة هذه الكيانات منفردة، بل أيضاً تعاون بعضها مع الرومان ضد الآخرين. وتقاتلوا مع بعضهم والرومان يسرحون ويمرحون.

وساعد على زوال السلطة النبطية أيضاً أن الرومان قد حولوا الطرق التجارية نحو مصر عبر البحر الأحمر، فأخذت موارد الأنباط تضمحل شيئاً فشيئاً وقوتهم تضعف فاستغل حاكم سورية الروماني كورنيليوس بالما الوضع، فهاجم البتراء عام 106 وحوّل مناطق النفوذ النبطي إلى ولاية عربية.

وبسقوط المملكة النبطية أنشأ الرومان الولاية العربية في جنوبي بلاد الشام والسورية في الشمال ولم تكن الحدود بينهما واضحة ثابتة إنما نتعرف عليها من خلال النصوص اليونانية. وعند هذه النقطة نصل إلى غايتنا في التعريف بدور الكفر في تاريخ حوران.

من المعلوم أن بعثات فرنسية وأميركية جمعت النقوش الكتابية اليونانية المنتشرة في قرى محافظة السويداء وترجمتها واستخلصت منها ما يفيد في الشؤون الإدارية والاجتماعية والاقتصادية... الخ. وقد جمعوا من الكفر تسعة عشر نصاً يونانياً نقشت كلماتها في الحجارة نعرض لها فيما يلي:

  • حجر مساحة قيل إن أحد السكان قد عثر عليه في كرم عنب على الطريق بين الكفر وتل قليب، وعلى مسافة يقطعها الخيال بمدة عشرين دقيقة من الكفر حتى الموقع ولا توجد بقربه آثار معمارية بل بعض الكسر الحجرية المزوقة.
  • الترجمة: خط الحدود من ماركوس هيربيوس، وفق أمر آفيديوس/ أبو كاسيوس الحاكم. ونفذه فافونيوس بريور المراقب.

    وأول ما نلاحظه على النص خلوه من الطرف الثاني، وهذا يدل بوضوح على أن جزءاً من الأملاك العامة قد اقتطع لمصلحة ماركوس هيربيوس. وهذه الإجراءات كانت مألوفة في البلاد أبان الحكم الروماني. وبما أن الاسم بريور كان لقباً أو رتبة عسكرية نفترض أن الأملاك كانت تحت إشراف السلطة العسكرية وخاصة الجيش الثالث الروماني المنسوب إلى مقاطعة كورونيكا. وعندما يسرح العسكري ويطيب له البقاء في البلاد ينتفع بجزء من الأملاك العامة، أي إن ماركوس هيربيوس كان قد سرح من جيش المرتزقة وطاب له البقاء في الكفر حيث حصل على أرض يعتاش من جناها.

    والواقع أن حجر المساحة هذا قد أثار عدة تساؤلات بين الباحثين أهمها لمن كانت تتبع الكفر؟ للولاية العربية أم السورية؟ فقد كان آفيدوس كاسيوس موظفاً كبيراً في الولاية العربية ثم أصبح حاكماً للولاية السورية.

    والنص لا يعيننا في إجلاء الحقيقة. ومهما يكن من أمر، فالكفر كانت أولاً من الولاية السورية ثم التحقت بالولاية العربية لقربها من بصرى، وبعدها عن دمشق.

    تعد هذه الكتابة الأهم بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية في الكفر وقتذاك من حيث إنها تسلط الضوء على إدارة الأملاك العامة وكيفية التصرف بها، ومن يحق له الاستفادة منها، نعرض ناحية هامة تتعلق بالحياة الاجتماعية أيضاً وهي بناء القبور، التي كان يقوم بها السكان على نفقتهم الخاصة.

  • وحتى نوضح الصورة نورد النص التالي على شاهدة قبر كانت مرمية بالمقبرة القديمة للكفر، وترجمتها:
  • أوليوس أيو سيبوس بن بطرس بن عين بناه على نفقته الخاصة. حسب المخطط الذي وضعته ورد زوجته.

    الواقع أن هذا النص ليس وحيداً بالكفر فهناك نصوص أخرى تشير إلى تشييد قبور بناء على وصية الزوج أو الأولاد. وكانت هذه القبور أوابد معمارية تخلد أسماء الموتى وذكراهم. وإذا كان الميت من الرجالات المتنفذين يدرج اسم الحاكم في النص الذي تم في عهده البناء. ويؤرخ حسب التأريخ البصروي. ويضاف أحياناً مقدار الكلفة بالدينار أو الدراخما. العملتان المتداولتان في البلاد.

  • وأقف هنا أيضاً عند نقش آخر مبني فوق مدخل بيت في الجزء الغربي من القرية ومقلوب وترجمته:
  • أوريليوس مونتانوس بن تيودوروس الشيخ من بصرى، القاضي سابقاً..... هذه الآبدة على نفقته الخاصة في عهد المشهور والذائع الصيت فلافيوس سرجيوس وفلافيوس نكرينانوس في عام 245 بصرى= 350 م.

    الأسماء يونانية ومسيحية مزدوجة أي إنه يضاف إلى الاسم اسم آخر قديس أو رجل دين معروف. ويشير النص إلى تشييد قبر إلى اوريليوس فهو قاض يتمتع بمكانة هامة في المجتمع اقتضت أن يدرج في النص، اسما فلافيوس سرجيوس وفلافيوس نكرينانوس اللذان وصفا بالمشهورين ولا نعرف عنهما أكثر من ذلك.

    واللافت للنظر أن اسم اوريليوس مونتانوس كان قد نسب إلى والده عوز بنص من دير اللبن ونظن أن الأسماء اليونانية كانت شائعة عند العرب أيضاً.

  • ليست هذه النصوص الوحيدة المكتشفة بالكفر، بل توجد نصوص أخرى، تتعلق ببناء الكنائس أيضاً، فلا تخلو قرية بالجبل من كنيسة أو أكثر في بعض القرى، وهذه مهمة كان يقوم بها أفراد المجتمع أو المتبرعون. فقد عثر على نقش في حجر فوق مدخل اصطبل بالجزء الغربي من القرية يفيد بأنه بإيعاز من فلافيوس بونوس الشهير والألمعي الرقيق والقائد أسست الكنيسة في عام 287 بصرى= 392 م. لقد أشاد المؤرخون بجهود فلافيوس هذا ومنهم ليبانوس وهو قائد عسكري في الولاية العربية.
  • وقبل أن يعتنق السكان في الكفر الديانة المسيحية كانوا يدينون للأرباب اللات والعزى والرب هدد وغيرهم والشواهد على ذلك مذابح قدمها السكان للمعبد ومعبد بناه فيليبوس وسدنة المعبد. والجدير بالذكر أن أسماء هؤلاء الأشخاص عربية على عكس الأسماء المسيحية اليونانية وكثيراً ما نجد في النصوص اسم المعمار مثل المعمار حنين بن أخو أبوه أي العم وهذا الاسم متعارف عليه عند الأنباط.

    لم تعرفنا النصوص ببناء الكنائس والمدافن والمعابد وحسب بل أيضاً ببناء البيوت ففي حنت باب نقش فيه صليب يذكر النص أن هذا البيت قد بني من الأوقاف في شهر أيلول من عام 630 بصرى = 735 م أي إن التشييد قد حدث قبل الفتح بقليل، فالحياة استمرت بالكفر وكان الاهتمام بعين موسى كبيراً إذ كان النبع مقبياً له حرمته، وحوله فسحة كبيرة تيسّر الاستفادة من مياهه.

    ويضيف د. بوعساف: وبعد هذا العرض نقول: إن الكفر كانت حصناً هاماً يحيط به سور مزين بالأبراج، تمتع سكانها بمكانة عالية في المنطقة بحكم نشاطهم المعماري والديني فقد كان منهم أساقفة شاركوا بالمجمعات المسكونية وغيرها.

    تلك هي معلومات أخذناها عن النصوص اليونانية. وسوف نحكي أيضاً عن الدراسات الأثرية في محيط الكفر.

    قام السيد فرانك بريمر بعملية مسح أثرية للمحافظة ، فأحصى العديد من المواقع الأثرية ومنها موقع تل الظهر إلى جوار الكفر من الجهة الشمالية الشرقية وذلك في عام 1984 وقد لاحظ القائمون بعملية المسح خلو التل من اللقى الفخارية والأدوات الصوانية . وهذا ما جعل موضوع تأريخ الموقع صعب للغاية ، وهذا ما حدى بنا لحل هذا الموضوع بواسطة مقارنة المباني الباقية فيه مع مباني معروفة في خرب الجولان .

    شيدت قرية تل الظهر فوق قمة بركانية على السفح الغربي للجبل ارتفاعها 1460 م وتشرف على السهول المنبسطة غربه حتى النقرة في حوران . وهي على الطرف الجنوبي لسيل من الحمم البركانية المنبسطة يحده من الشرق منحدر قوي غير مسطح ومن الجنوب والغرب منحدر ذو ميل خفيف يشكل تحول من القمة المرتفعة إلى الأرض المنبسطة أما في الشمال فالصخور البركانية واضحة، طول الموقع 420 م وعرضه من 120-180 ومساحته حوالي 6 هكتارات. وقد حصي فيه 87 بيتاً 38 منها تشكل سلسلة متعددة الحلقات أي البيوت، البيوت 1 – 15 على الطرف الشرقي أما البيوت 16-61 فهي على السفح الجنوبي الغربي، بينما انتشرت بقية البيوت فوق القمة. لقد وزعت البيوت على مساحات متفاوتة وأحياء متعددة منها ما يتألف من 15 بيتاً أو عشرة بيوت أو خمسة أو اثنان طبقاً لشكل الموقع الذي بنيت عليه فمنها الضيق والواسع والعريض... الخ وفي مجموعها تشكل قرية مغلقة. في الحقيقة البيوت 1-22 و39-63 و1- 40 و47-61 تشترك بجدارين طولانيين الخارجي منها خال من النوافذ ومرتفع وكأنه السور وتتصل حجارة الجدران العرضانية بالسور وتتداخل معه. ومن جهة ثانية يلاحظ المرء بين البيوت5 و6، و6 و7، و7 و8، و10 و11، كومات ترابية وحصوية أو حجرية صخرية تشكل حيطاناً صغيرة أو حواف ترابية كانت تخدم حواجز ترابية أمام البيوت لدرء الفيضان، أطوالها من 1.8م– 2.25م ومنها ما هو حواجز عند نهاية السفح. أما في الجهة الغربية فقد أقيمت جدران بين الجدران الخارجية للبيوت لتتصل ببعضها بعضاً ويتحقق الغرض الدفاعي. تنفتح أبواب البيوت المبنية على المحيط نحو الداخل ويتنافى الانغلاق نحو الداخل والمركزية للمخطط مع وجود فتحات أو فراغات عريضة بين البيوت أحياناً وتنفتح المحال على ساحات كبيرة وصغيرة.

    ويخيل للمرء الذي يدقق في توزيع البيوت أنه أمام نزل بدوي يتشكل من بيوت أسر بيوت كل أسرة متجاورة وتبتعد عن الأسر الأخرى. والواقع أن شكل البيوت المستطيل يوحي بذلك فالعمارة القديمة في بلادنا كانت تقليداً لبيوت الشعر فهي وحيدة الحجرة تدير ظهرها للخارج أو لجهة معينة وتنفتح على جهة أخرى وتكون متقاربة.

    والواقع أن طول البيت في تل الظهر هو ضعف العرض أو نادراً ما يتساوى معه. وقد بنيت بحجارة بركانية لتترابط مع بعضها بشكل جيد فتكون بيتاً متراصاً يقاوم العوارض الطبيعية وكلها من الحجر، الجدران والسقوف. أما الأبواب فربما كانت درفاتها أيضاً من الحجر.

    وأخيراً لا بد من القول إن هذا الطراز من البيوت كان معروفاً في بلاد الشام الجنوبية كلها ونعرفها من خرب لبوة والإنباشي والهبارية وجاوة وغيرها.