للشعر الشعبي أهمية كبيرة في تدوين الأحداث التاريخية في جبل العرب، فقد أرخ وقائع بطولية، بعفوية تؤكد مصداقية الحدث، حتى أصبح مادة يعتمد بها المؤرخ في تحقيق بحثه أو دراسته، ويمكن القول إن هذا النمط من الشعر ساهم في إشعال جذوة الانتصار في نفوس المقاومين والثائرين بمفرداته وإيقاعه، لكن نقله وتداوله جعل التشويه يتسلل إلى عدد من قصائده، نتيجة عدم إدراك المعنى وتشويهه عبر الإلقاء،

وعن أهمية الشعر الشعبي وتدوينية والتحريف به الشاعر الشعبي "زيد النجم" أوضح لموقع eSuweda قائلاً: «تكمن أهمية هذا النوع من الشعر بتأريخ انتصارات آبائنا على الفرنسيين في معارك "الكفر والمزرعة والمسيفرة" وغيرها، وفي معركة تاريخية جرت عام 1905 بين الثوار والاحتلال سببها قصيدة القاها الشاعر "اسماعيل العبد الله" وأطلق عليها قصيدة "المثورة" يعني التي اثارت في نفوس الثوار وكانوا منتصرين بتلك المعركة.

لعلنا إذا أردنا التدوين والتأريخ علينا أن نكون أكثر مصداقية في النقل، خاصة أن بعض القصائد الشعبية لم يمض عليها قرن من الزمن، وتداولها بغير دقة يجعل معانيها في تناقض، وبالتالي نفقد اللحظة التاريخة التي أراد الشاعر أن يدونها بأشعاره، ولولا تقاطع المعلومة والمعنى ومتابعة المعمرين الذين يحفظون بعضها، لأصبح شعرنا الشعبي بمنأى عن التاريخ، وهذا يتطلب من الباحثين الاهتمام في مضمون وصور ودلائل هذا نمط من الشعر وخاصة القائم على الفعل منه، كما في قصائد "نجم العباس، واسماعيل العبد الله، وشبلي الاطرش، والشيخ ابو علي قسام الحناوي، وغيرهم من الشعراء، الذين ساهموا بتوثيق وتدوين المعارك والانتصارات والتغني بالعادات والتقاليد لتبقى في الذاكرة

ولكن الذي يؤسف له حقاً التشويه الذي حصل لبعض القصائد والأهزوجات دون قصدٍ، فقد درجت على ألسنة شبابنا بعض الأهازيج الحماسية، يرددونها بالمناسبات القومية والوطنية والأفراح بعد أن رددها الثوار في معاركهم ضد الفرنسيين منها:

الشاعر الشعبي زيد النجم

"يا راكب اللي لو مشت ما تندرك/ يحث حاله.. ولا تحتاج يسوقها

موردها عرمان وع جال البرك/ خيّالها سبع المجنزر فوقها

الباحث نصر ابو اسماعيل

تلفي القريا ونوّخ بدار الملك/ سلطان باشا عزها ونصابها

جوك الزغابة يا رينو دور هلك/ حنا بني معروف عز انسابها

سربة ملح يوم المعامع تذهلك/ نصر الكفر مجد وفخر لشهابها

بالمزرعة وقف دليك ما سلك/ عشرين ألف اللي انسدح ع ترابها"

ومع الحماس الذي تؤججه المناسبة يردد الشباب هذه الأهازيج دون الانتباه لمعنى ما يرددون؟».

وعن المعاني المتناقضة ومقارنة تلك الأبيات المحرفة بالابيات الدقيقة تابع الشاعر "زيد النجم" بالقول: «الكلمات التي يرددونها بعكس المعنى المقصود، وإذا دققنا قليلاً بمعنى الكلمات لوجدنا بها تناقضاً عجيباً، حيث لا يمكن للشاعر الذي يبعث بمرساله، ويجهز له فرساً بهذا الوصف، ويوردها على بُرك "عرمان" تكريماً لمجاهديها، أن تتحول الفرس إلى "ذلول" بعد وصولها إلى "القريا" حسب توجيه الشاعر لمرساله، وذلك بدلالة قوله: "تلفي القريا ونوّخ بدار الملك"، إذ لا يمكن للشاعر الحصيف الذي أبدع هذه الصورة الشعرية في وصف الفرس أن يُشبه المرسال بقوله: "خيالها سبع المجنزر فوقها"، فالسبع المجنزر لا يمكنه أن يفعل شيئاً، علماً بأنه "ملك الغابة"، والصحيح هو "خيالها سبع المزمجر فوقها" لأن السبع لا يزمجر إلا في أشد حالات غضبه، وهنا تبدو الصورة الشعرية مكتملة للشاعر، وكذلك لا يمكن للشاعر الذي سبق وصفه أن يبدل القافية بصدر الأبيات الأولى من "رك" إلى "لك"، وبعجز الأبيات التي بعدها من"قها" إلى "بها".

لكن هناك من يدّعي أن الأبيات للشاعر المجاهد "ثاني عرابي" وقد قالها بـ"العيّن" (وهو مكان اجتماع الثوار يوم 21/ تموز/1925 ظهراً، وهم ينتظرون قدوم "بيرق ملح" وذلك قبل حدوث معركة "الكفر" بساعات)، فكيف يؤكد الشاعر "النصر قبل حدوثه"، وكيف يؤكد أيضاً أنه بعد عشرة أيام، سوف ينتصر الثوار بمعركة "المزرعة" هذا الانتصار الذي جعل عشرين ألفاً من جنود الأعداء قد استلقوا فوق ترابها قتلى؟.. فهل الشاعر يعلم الغيب الذي اختص به واحدٌ أحد، جل جلاله؟ وقد نسبت الأبيات للشاعر المجاهد "هزاع الجرمقاني" من "عرمان" فلا يمكن أن يخطئ هذه الأخطاء شاعران كبيران، ومجاهدان معروفان ببطولتهما ومصداقيتهما».

وعن حقيقة الأبيات بيّن الشاعر الشعبي "زيد النجم" بالقول: «الحقيقة أنه تم المزج بعفوية بين أهزوجتين لشاعرين مشهورين، والأصح من مصادرها أن الأهزوجة الأولى للمجاهد الشاعر "أبو نايف حسين بلان" من قرية "ملح" وقد شارك بأغلبية معارك الثورة السورية عام 1925 مقاتلاً تحت بيرقها، وقد أكدها الباحث الشاعر "نصر ابو اسماعيل" من "ملح" وبإجماع كل المعمرين فيها، والذين عاصروا قائلها وسمعوها منه شخصياً ومنهم ما زال حياً يرزق كالشيخ العلامة "أبو حمد محسن الملحم" الذي تجاوز القرن من العمر، وهو ذو مصداقية بما يرويه.

ومن اللافت للنظر أن الشاعر المجاهد "حسين بلان" قد أرسل مرساله من "ملح" بعد أن أعد له فرساً بهذا الوصف الرائع ثم يوردها على برك "عرمان" تكريماً وثناء على مجاهديها الذين استبسلوا في معركة "الكفر"، فاعتز ببطولاتهم لأن البطل يمجد البطولة ويعتز بمن قام بها، وها هي كاملة كما قالها صاحبها بعد معركة "الكفر" 1925:

"يا راكب اللي لو مشت ما تندرك/ يحث حاله.. ولا تحتاج يسوقها

موردها "عرمان" وع جال البرك/ خيّالها سبع المزمجر فوقها

تلفي "القريا" واخو سمية منحرك/ شيخ العشيرة حافظاً لَحقوقها

لفت بني معروف وجيت أبشرك/ بياعة الأرواح بيوم سوقها

عيب على اللي ما حضر يوم العرك/ يوم الرصاص تقول لمع بروقها».

وعن المصداقية في التوثيق والنقل أوضح الباحث في الشعر الشعبي الأستاذ "نصر أبو اسماعيل" قائلاً: «لعلنا إذا أردنا التدوين والتأريخ علينا أن نكون أكثر مصداقية في النقل، خاصة أن بعض القصائد الشعبية لم يمض عليها قرن من الزمن، وتداولها بغير دقة يجعل معانيها في تناقض، وبالتالي نفقد اللحظة التاريخة التي أراد الشاعر أن يدونها بأشعاره، ولولا تقاطع المعلومة والمعنى ومتابعة المعمرين الذين يحفظون بعضها، لأصبح شعرنا الشعبي بمنأى عن التاريخ، وهذا يتطلب من الباحثين الاهتمام في مضمون وصور ودلائل هذا نمط من الشعر وخاصة القائم على الفعل منه، كما في قصائد "نجم العباس، واسماعيل العبد الله، وشبلي الاطرش، والشيخ ابو علي قسام الحناوي، وغيرهم من الشعراء، الذين ساهموا بتوثيق وتدوين المعارك والانتصارات والتغني بالعادات والتقاليد لتبقى في الذاكرة».