يخطفنا الفنان العالمي المغترب "فؤاد الورهاني" ابن قرية "الكارس" القابعة في شعره المحكي إلى زمن نكاد لا نعرفه، ونجهل مكنوناته إلا في أحاديث التراث والمعمرين في السن، وهو الذي وثق بالكلمة الحية كل ما يجول في أحلامنا عن ذلك الزمن.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع الشاعر الفنان "فؤاد الورهاني" المقيم في "أستراليا" يوم الإثنين الواقع في 20 تشرين الأول 2014، وكان اللقاء التالي:

في أشعاره تكتشف ما سلب منك بفعل الزمن، وأشعاره تحفة فنية لا يمكن أن تتخلى عن قراءتها بسهولة، وهو يجعل الذين ينبشون بالماضي كدليل عمل لهم يمشون بهديه، فعندما أنظر إلى مجموعتي التراثية الكبيرة التي جمعتها طوال 14 عاماً وأقرأ الكتاب، أكتشف أن المجموعة ما زالت ناقصة وتنتظر المزيد. لقد أخذنا بقصائده إلى رائحة الأجداد القدامى، إلى تلك الرائحة المنبعثة من (نملية) جدتي وهي تحتفظ لأحفادها بأطيب الأكلات. "فؤاد الورهاني" الذي تجذّر الوطن في روحه وعقله هو قطعة كبيرة من البازلت الحنون الدفئ الذي لا يمكن أن يتكسر يوماً مهما اشتدت في روحه المحن، والذي يمكن أن يتحول بلحظة إلى طفل صغير يداعب شجيرات التوت الشامي ويتسلق (حيط البيدر) ليقطف كوز التين من شجرة الجيران

  • ما هي قصتك مع الشعر المحكي، وأنت دائم الترحال مع إزميلك ومطرقتك؟
  • الكارس قرية الشاعر

    ** الشعر يعيش معك أينما كانت وجهتك، وأنت تدندن قصائد لك ولأشخاص لم تعرفهم من قبل، أو لشعراء حاكوا من غياهب الليل إبداعاً لتكريس الحالة والوطن، ولقد انطلقت في شعري من خلال بيت الشاعر "أحمد شوقي": وطني لو شغلت بالخلد عنه.. هكذا كان يبدو لي المشهد بعد غياب طويل عن المكان الأصيل، المكان الذي نشأت في شمسه وهوائه ومائه وترابه البني، وهو الذي دخل دمي مراراً عديدة مع كل جرح أو "دعثورة" من جراء اللعب والمشي حافي القدمين، عندما كنت وأترابي نعالج هذه المشكلة بأخذ التراب وكبسه على الجرح حتى ينقطع النزيف، وهكذا يجري تراب قريتي "الكارس" في دمي عقوداً لينزف حنيناً دون انقطاع كلما ابتعدت عنها، ومن هذا المشهد رحت أكتب: "هذي قصص من ضيعتي... عا فرقتا يا ليعتي.. كانت بئيدي وطيعتي... يا ضيعتي لعم بذكرا.. يا كروم عنب وشوشرا.. ويا وادي من حدا جرى.. ومصطاح زبيب ومعصرة.. وطاسي وخوابي ومحفرا... وسراج وطاقة مشحترا وفيها لجدي مقبرا.. كيف صارت يا ترى؟"

  • أنت مقيم حالياً في "أستراليا" بعد رحلة طويلة ما بين "إيطاليا ولبنان ونيجيريا"، ولقد تابعنا شعرك باللهجة المحلية، فلماذا العامية الصرفة، وما الهدف منها؟
  • كتاب ضيعتي أول تجربة للفنان الورهاني.

    ** هذه المشاهد التي قرأها الناس من الذاكرة التي بدأت تمحى وتقلب معالمها مع كل طالع حديث من المبتكرات التي بعدت وقربت ما لنا وما علينا، ولهذا كانت أشعاري محصورة بالذي جمعت منه ما استطعت من أخبار وقصص وأفراح وأتراح، وذكرت أواني وأدوات لم تعد متواجدة إلا في متاحف الذاكرة، خلف أبواب الماضي، لأنقلها إلى القادم من الأحفاد للذكرى. وقد كانت "الكارس" هي المقصودة في أشعاري لكونها مسقط رأسي، ولكنك عندما تتحدث عن قرية ما في "جبل العرب" كأنك تتحدث عن باقي القرى كافة، ولو تحدثت عن أسلوب الحياة في البيت الواحد فكأنك تتحدث عن باقي البيوت، ولذلك كانت أشعاري باللهجة المحكية لأنها أقرب إلى الواقع الذي ناشدته، ولا يمكن أن تصل الفكرة التي أريد باللغة العربية الفصحى مع عظمتها.

  • كيف اتبعت طريقة الكتابة؟ وما الجديد الذي يختلف عن الشعر النبطي التقليدي؟
  • سوف تكتشف بنفسك طريقة الكتابة، إذ أتت على طريقة (قل من استعملها من قبل في الشعر المحكي)، وهي كتابة الكلمة كما تلفظ، مثل (ريحت لكشك بلبيت عبق) بدل (ريحة الكشك بالبيت عبق)، وقد تختفي أحرف مثل ألف الإطلاق مثلاً، أو لام التعريف في حالتيها القمرية والشمسية وغير ذلك، وقد كتبت القصائد باللهجة المحكية المحلية دون اتباع لهجة البادية خصوصاً، أو تلك المتبعة في الأشعار الحماسية والفخرية التي كانت وما زالت تعتمد على الفخر والبطولة. وقد قيلت عمداً ليسهل نقل الخبر من القديم إلى الحديث عما يتعلق بتلك الأيام بلهجة المحيط المتحرك حوله من حضر وبدو عبر التنقل والمخالطة. أما في كتابي فقد قصدت أن ألقي الضوء على هذا الإنسان البطل ليس في ساحات الوغى والمضافة والكرم فحسب، وإنما على صراع لا يقل أهمية عن هذا الظاهر، وهو ارتباطه بالأرض وما عليها من حيوان ونبات وأشجار وينابيع، وعادات وتقاليد وأمثال متداولة قديمة، وقد عمدت أن تكون كما هي فصول المسرحية، وأتبعتها برسوم توثق لتلك الحالات والأدوات التي لم تعد متواجدة.. (وعالعيد عملو كعك.. وعملو صفوف.. والمرشم نقشوها من النص وعلحروف.. وصرنا عدار ودار.. كلنا نطوف.. ما ظل حدى.. مالكل بالبلد معروف؟ ويصالحوا المتزاعلين ويتخامسوا لكفوف والي ميتلو حدا من قبل يوم العيد.. نقدم تعازي من جديد.. ويقلو بالتحديد.. مكنش بدنا تعيدوا.. وخاطر حدا مكسوف).

    جامع التراث المادي السيد "جمال مهنا" الصديق المقرب للنحات الشاعر "الورهاني" وصف ما أبدعه الشاعر من شعر محكي بالقول: «في أشعاره تكتشف ما سلب منك بفعل الزمن، وأشعاره تحفة فنية لا يمكن أن تتخلى عن قراءتها بسهولة، وهو يجعل الذين ينبشون بالماضي كدليل عمل لهم يمشون بهديه، فعندما أنظر إلى مجموعتي التراثية الكبيرة التي جمعتها طوال 14 عاماً وأقرأ الكتاب، أكتشف أن المجموعة ما زالت ناقصة وتنتظر المزيد. لقد أخذنا بقصائده إلى رائحة الأجداد القدامى، إلى تلك الرائحة المنبعثة من (نملية) جدتي وهي تحتفظ لأحفادها بأطيب الأكلات. "فؤاد الورهاني" الذي تجذّر الوطن في روحه وعقله هو قطعة كبيرة من البازلت الحنون الدفئ الذي لا يمكن أن يتكسر يوماً مهما اشتدت في روحه المحن، والذي يمكن أن يتحول بلحظة إلى طفل صغير يداعب شجيرات التوت الشامي ويتسلق (حيط البيدر) ليقطف كوز التين من شجرة الجيران».

    يذكر أن الكاتب الفنان من مواليد قرية "الكارس" عام 1949، وقد بدأ النحت على الحجر منذ الطفولة، وساهم مع والده الراحل "شاهر الورهاني" وشقيقه النحات "غالب الورهاني" في بعض الأعمال بقصر "موسى" الشهير، وله منحوتات في عدد كبير من دول العالم أشهرها تمثال كأس العالم في نيجيريا للشباب، والشعلة الأولمبية في "سيدني" بارتفاع أربعة أمتار، وقد نال العديد من الجوائز العالمية، والكتاب الشعري "ضيعتي" هو الأول له ويقع في 320 صفحة من القطع الكبير، وقد ساهم عدد كبير من الأشخاص في إخراجه إلى النور.