«المرحلة الأفضل في حياتي كانت ما بين /14ـ 17/ عاماً، وفيها شعرت بوجودي واستقراري النفسي، الرواية صديقتي والرؤية ملهمتي والقلم منقذي عند تزاحم الأفكار، لم أكن أعرف القدر ماذا يخبئ لي في طيفه المجهول، أقرأ الكثير من القصص الأدبية وأعيش رؤاي وعالمي الآخر في سطور الصفحات.. وما ترمي إليه العبارات والنصوص في أبعادها الحلمية والتصورية.. حيث كانت تشدني إلى الجمال وتبعدني عن بؤس الواقع المرير».

هذا ما بدأته الأديبة السورية "إبتسام العيسمي" في حديثها مع موقع eSuweda الذي التقاها في منزلها في بلدة "ملح" بتاريخ 21/3/2009.

لقد عودت أسرتي على مبدأ حكيم يكون مثلهم ومنقذهم في الحياة، مفاده: أن الإنسان كلما أخضعته الظروف إلى اليأس عليه قهرها والنهوض مجدداً، فالزمان لا تخضعه سوى إرادة الأقوياء على أن تكون الإرادة منصرفة في منحى العمل النبيل

وتضيف: «كان مولدي في "السويداء" عام /1963/، من أسرة متوسطة الحال، مؤلفة من ست شقيقات وثلاثة أشقاء، والدتي ليست متعلمة، وكانت تعاني من مرض القلب، والدي موظف بسيط، ولكن انشغاله خلف العمل كان يبعده عنا، في الماضي عانت أسرتنا من الفقر ومن شظف العيش، وهذا الحال كان جارياً على الكثير من العائلات. طفولتي مرت سريعاً لم أشعر بها، ولم أكن خلالها سعيدة، وأمامي لم أكن أجد سوى واقع صعب وضغوط مجتمعية قاهرة تنعكس بقسوتها علينا، هذه المراحل كانت تحتبس في صدري، وداخلاً تحرضني على قهر الظروف وكسر حاجز الريبة والخوف، وبعد سنوات قليلة وجدت نفسي أندفع جراء ذلك إلى قراءة الأدب والتعمق في عالم القصة والرواية».

الأديبة في الشباب

وحول أهم الأعمال الأدبية التي قرأتها، تقول: «قرأت روايات عالمية مختلفة منها (البؤساء) للكاتب "فيكتور هيجو"، و(أبناء العم توم) للكاتب "ريتشارد رايت"، و(الليالي البيضاء) للكاتب "دستويفسكي"، و(اللص الظريف) للكاتب "أرسين لوبين"، و(أقوال القمر) للكاتب "جون شانبينيل"، و(الأم) للكاتب "مكسيم غوركي"، وقرأت أيضاً لكتاب عرب مصريين منهم "إحسان عبد القدوس" و"نجيب محفوظ" و"طه حسين" و"مدحت السباعي"، وبعض منها استوقفني ونال مني القراءة لأكثر من مرة، كأعمال الراحل "نجيب محفوظ" ومنها (همس الجنون)، و(السمان والخريف)، و(ثرثرة فوق النيل)، ورواية (السباحة في بحيرة الشيطان) للكاتبة "غادة السمان"، وكان لها التأثير البالغ على نفسي لأنها قصص مستخلصة من التجارب الإنسانية، وتخاطب الوجدان الإنساني العميق، ولاسيما في جزئها المتعلق بمنحى تقمص الأرواح».

روت الأديبة في حديثها مع موقعنا مقتطفات من حياتها حول بداية الحلم وأين انتهى المآل، تقول فيها: «بدأت المطالعة بسن /13/ عاماً، وأول كتاب قرأته (الرسام الخالد) عن الفيلسوف "ليوناردو دافنشي"، و(مخترعة الراديوم) عن الباحثة "مدام كوري". لقد كنت أثناءها منتسبة إلى المركز الثقافي العربي في "السويداء"، أستعير من مكتبته الروايات والقصص والبحوث العلمية.. من هنا اتجهت إلى كتابة النصوص القصصية والخاطرة، وكنت أراسل البرنامج الإذاعي الأردني (أقلام واعدة) ومقدمه الراحل "محمد خشمان"، وكانت نصوصي التي أرسلها تقرأ أثناء تقديم البرنامج، وقد حظيت من مقدمه بتشجيع كبير».

التعمف في عوالم القراءة

وتضيف: «من القصص التي أرسلتها إلى البرنامج (ثوب زفاف)، وتدور أحداثها حول فتاة مراهقة تقدم لها إنسان ثري وهرم، والداها أجبراها على الزواج به لثرائه، وفي ليلة الزفاف والجو مظلم وعاصف، هربت الفتاة قبل بداية الحفلة بدقائق.. وأثناء عبورها لدرب ترابي شائك وقعت في بقعة ماء موحلة، فتحول ثوب زفافها الأبيض إلى ثوب حداد أسود لأنها من عناء الطريق وشدة البرد فقدت وعيها وتجمدت أطرافها ثم ماتت، وبهذا تحوّل زفافها إلى مأتم. كما أرسلت قصة أخرى أسميتها (قريتي وأنا)، أحداثها تدور حول أسرة فلسطينية يدمر منزلها أثناء الحرب، فيموت الأبوان والأبناء يفترقون أثناء التهجير، وبعد سنين طويلة من الفراق يبدأ أفراد الأسرة بالبحث عن أنفسهم، وهنا تبدأ تراجيديا المعاناة. مراسلاتي هذه كانت بالنسبة لي ضفة ترسو عليها آمالي.. ولكنها سرعان ما توقفت بتوقف البرنامج ورحيل مقدمه الذي كان خلاقاً ومبدعاً في طرح النصيحة والرأي».

وحول الخاطرة الأدبية، تقول: «نالت الخاطرة الأدبية مني اهتماماً بالغاً، فوصلت بها إلى مقام أدبي جميل، وأذكر مما كتبت: "وقفت أنظر إلى القدر الصامت، العابث، الضاحك، الساخر من كل شيء، إنه يحركنا كما الدمى المربوطة بحبال متينة بين يديه الكبيرتين القويتين، تساءلت ماذا بقي من أيامي الميتة؟ وكيف رحلت إلى عالم الخلود؟ أحن إلى أيام الصبا إلى ذكريات زمن عبر إلى فراشات حديقتي وورود ربيعي، وقطره الندي المتبقي من رحيق الحياة"».

شقيقها الأكبر فيصل

وتضيف: «توقفت طموحاتي في سن /18/، هجرة شقيقي الأكبر "فيصل" إلى "فينزويلا" الذي كان مثلي ومرجعي في كل شيء، وانتقالي بعد الزواج إلى بيئة معتمة ثم وفاة والدتي، كل ذلك أوقفني عن دراسة السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية، وأدخلني في ظلمة موحشة، ليأتي شظف العيش وإرهاق الظروف فيما بعد حملاً ثقيلاً زاد من وطأة هذه الظلمة، وفاجأني أكثر نبأ إحراق كل كتبي وقصصي ومذكراتي المحفوظة في بيتنا في "السويداء" من قبل زوجة والدي الجديدة، وهنا انتقل فكري إلى الأمل بالعيش الهادئ المستقر بعيداً عن الكتابة والأدب».

قررت أديبتنا بعد مضي /25/ عاماً النهوض مجدداً واستعادة عملها الأدبي، حول هذا المنعطف تقول: «عدت بعد /25/ عاماً إلى قلمي وهواجسي ورحلات خيالي إلى النور، لأنسج خيوط روايتي الأولى (أطياف حلم)، وتدور أحداثها حول فتاة حسناء تعيش في تضاد مع الواقع، وما تفتقر إليه تحققه لها الأحلام العابرة.. وعندما تصحو تبدأ رحلة بحثها عن حلمها المفقود بين متاهات الواقع، وما زالت صفحات هذه الرواية تتوالد».

وفيما يتعلق بأسرتها الجديدة، تقول: «أكرمني الله بأسرة مثالية، شاب وخمس فتيات، "سلاف" و"دانيا" و"ديمة" و"مرح" و"سماح" والجميع في مراحلهم التعليمية، أما "علاء" فهو الابن الأكبر وهو فنان تشكيلي وباحث في مجال الأدب، من أعماله الأدبية المقيدة للنشر: رواية بعنوان (إلى نفسي)، وبحث سيكولوجي بعنوان (اكتشاف الذات)».

وتضيف: «لقد عودت أسرتي على مبدأ حكيم يكون مثلهم ومنقذهم في الحياة، مفاده: أن الإنسان كلما أخضعته الظروف إلى اليأس عليه قهرها والنهوض مجدداً، فالزمان لا تخضعه سوى إرادة الأقوياء على أن تكون الإرادة منصرفة في منحى العمل النبيل».

واستذكرت الأديبة خلال الحوار، موقفاً إليماً حدث قبل حرب "تشرين" التحريرية عام /1973/، تقول فيه: «حدث ذلك أثناء عودتي من المدرسة، وكان عمري /10/ أعوام، شقيقاتي الصغار أودعتهم والدتي عند جيراننا لأنها أخذت شقيقي الأكبر إلى الطبيب، (قلعة الجيش) ـ الثكنة العسكرية يفصلها عن بيتنا حوالي /200/ متر، الجو كان مضطرباً بحركات الطيران الإسرائيلي، وقبلها بيوم كانوا قد قصفوا حرش بلدة "الكفر" بكامله، صافرات الإنذار في كل مكان، عندما وصلت مشارف حارتنا جلبت شقيقاتي وقدمت إلى البيت، ولم أكد أصل حتى راح العسكر يصرخون علينا حتى نغادر بسرعة إلى الملجأ، وما هي إلا لحظات حتى نسفت القلعة ودوي انفجار هائل عمّ الجو، /8/ طائرات إسرائيلية أنزلت قنابلها على القلعة، احتضنت شقيقاتي واحتمينا جانب الحائط وتعرضنا لأصابات خفيفة جراء الانفجار، حضر والداي بعد ذلك مذعورين معتقدين أننا قتلنا ولكنهما فوجئا بأننا أحياء، والمأساة أن فوج الإنقاذ والإسعاف أخرجوا من القلعة عشرات الجثث المتفحمة والأشلاء المتقطعة من هول الحريق، وما زالت هذه الذكرى تعصف في مخيلتي كما الريح الهائجة في غضبها».

موقعنا التقى "سماح" (إحدى بناتها) التي قالت عن والدتها: «عانت والدتي من صعاب حياتية مختلفة شديدة الوطء، أبعدتها عن مثالية التصور في عالم الأدب الذي طمحت إليه في شبابها، لكنها أقل ما يمكن قدمت إلينا هذا المخزون العظيم الذي جهدت في ادخاره واكتسابه من الأعمال الأدبية التي قرأتها إلى جانب تجربتها المعيشة كأم مربية ومعلمة، ويكفينا سعادة في المنزل أنها عادت بعد كل هذه السنوات من الانقطاع إلى مواصلة عملها الأدبي في رواية (أطياف حلم) التي خطت صفحاتها الأولى، والمنى أن نراها عملاً أدبياً متميزاً يتداوله الجميع».