«إن معاناة البلبل هي السبب الذي يجعله يغرد على الأفنان ليسمعنا أعذب ألحانه... لعمري إن الشاعر كالعصفور كلما زادت معاناته وأوجاعه غرّد وأطرب أكثر لأن هناك علاقة إلهامية ما بين الوجع الوجودي الذي هو أوتار الشاعر وما بين عاطفته التي يجسدها بأشعاره وأنغامه، ليبث فيها مزاميره الخاصة التي تطربنا حيناً وتبكينا أحياناً أخرى».

وذكر الشاعر "فرحان الخطيب" في لقاء eSuweda معه بتاريخ 20/6/2008، أن القطرات التي عودنا الشاعر "غانم بو حمود" قراءتها له على صفحات الدوريات المحلية وفي مجموعتيه الشعريتين، ليست سوى طريقة جديدة في الإبداع الأدبي لكونها تحمل فلسفة وجودية تأخذ من عقل المتلقي حيزاً كبيراً في اكتشاف رمزيتها والغوص في جدلية معناها.

ولم تكن /قطرات عطشى/ التي كانت عنواناً لمجموعة "غانم بو حمود" السابقة (عطش..) بل كانت ممتلئة بالاخضرار والحياة.. لكنه قصد من ذلك.. أن أشعارها عطش لمتذوق المتسلق إلى أشجارها وقطف ثمارها المسكونة بالضوء والنسيم.

الشاعر فرحان الخطيب

وفي مجموعته الجديدة التي حملت عنوان /مقامات العطر المالح/ قد اختار كلمة المقام، لأن المقام هو حالة الرقي والارتقاء والتجرد من عالم الوجود للدخول بعالم ملكوت الجمال دون التقيد بالزمان والمكان والقانون الوضعي، بل هو نابع من صفاء روحي عميق، ومهارة في عزف أنغام رقيقة على أوتار ذاته وشجونها، بعيداً عن عالم الظلم والفساد، متسلحاً بثقافة أدبية فكرية، تجعل من كلامه الشاعري أنغاماً يعزفها الشاعر على أوتار روحانيته وروحه في لحظة صفاء ذاتي بين مراتع زرقة الليل (وراسته) في غسق الحضور.

بهذه المعاني استطاع الشاعر "بو حمود" أن يضع أحجية شعرية جديدة تحمل المعاصرة والحداثة دون التخلي عن الأصالة، في مجموعة واقعة في مئة وثلاثة وخمسين صفحة من القطع الوسط.

غلاف المجموعة

قدم الشاعر مجموعته الشعرية بقصيدة للشاعر التشيكي "فيليم زافادا" ترجمة الدكتور "ميشال سليمان" بعنوان /بلا اسم/ فيقول:

ليس اسمي على لافتات/ ولست أمثّل في مسرح/ أرتدي ملابس عاديَّة/ وأعيش عيشة عامة الناس/ ولكن عزّة نفسي تظهر في ملامحي/ وتظهر في عينيَّ بلا تقتير/ عزة الملايين المجهولين/ فهذا مجد من لا اسم لهم....

الأديب وهيب سراي الدين

بهذه الكلمات الشاعرية بدأ مجموعته الجديدة ليبدأ بعدها بحديث الساعة بقوله:

أشعة الشمس/ تنقر زجاجَ نافذةٍ/ وراءها/ يختلجُ قلبٌ/ في زهريَّة..!

هنا يصرح عن مدى حبه وعشقه للحرية إذ رمز لها بأشعة الشمس وهي التي تضيء الدروب وتفتح الآفاق وتنضج العقل، وتظهر براعم أزهار الحياة، وأعطاها تشبيهاً تعبيرياً بسطوعها الوضاء على العالم الأجمع بقانون قدرية الأزل، حيث أن الإنسان غير قادر على الوقوف حائلاً دون تماهيها في الأشياء.

أعتقد أن الشاعر كان دقيقاً ومعبراً في وصفه للشمس وللقلب ولهذا كان ترميزه موفقاً وتعبيره جميلاً بطريقة فنية تحمل ومضة خاطفة لكنها تترك التأمل فيها لساعات وأيام ويبني عليها أفكار وأفكار... ويمكن القول إنها مقام جديد، قد جدد في النهج والأسلوب لقطرات عطشى .

وفي ومضة أخرى /في ذكراها الأولى/ يقول:

ماتتِ الفلاَّحةُ

لكنَّ حليبَ بقرتها

ظلَّ أبيضَ...

في هذه الإضاءة أعتقد أن استمرارية الحياة نابعة من الأصالة، وهي تترك أزهاراً ولا يمكن أن تنتج غير الجميل المستحسن، فهو رمز إلى الفلاحة بالأم الحنون التي تعطي من غير مقابل وتربي الأولاد وتعتني بهم حتى تفني نفسها أمامهم وهي الأم الرؤوم للأسرة بكاملها، لذا عندما فارقت الحياة لبست الأسرة السواد وعاشت حالة الحداد الحقيقي على الأم، ولكن من شعر بالفراق الفعلي والعملي هي البقرة التي كانت الفلاحة تقدم لها الطعام والماء فهي لبست الحداد ولكنها ظلت تنتج حليباً أبيض لأنها ديمومة الحياة، وهي لم تنس أن تطعم الأسرة من حليبها الأبيض.

فقد برهن الشاعر أن العلاقة القائمة هي علاقة مندمجة مع البقاء ولا يمكن أن يخرج عن الجميل إلا الجمال ولا الأصيل إلا الأصالة.

وفي مقام الجوع يقول:

القمحُ على البيادر/ لكنَّ الطواحينَ جائعةٌ/ لذاكرة النملِ...

يعيش الشاعر حالة من اليأس والقنوط من كثرة المواعيد والترغيب في توفير احتياجات الحياة دون تحقيق ما يوعد به، على الرغم من وجودها على البيادر، والطواحين تلتهم كل القمح ولا تترك للفلاح قوته اليومي وتجعله في جوع دائم وحاجة ملحة للقمح حتى إنها منعت عنه التفكير في مصير القمح ولا يحق له أن يخطر في ذاكرته ولو بمجرد الحلم غير الواقعي أن يعيش لحظات ماض شعر فيه دون إدراك مادي بوجود القمح وتوفيره لسد رمقه اليومي وفي هذا المقطع نشعر أن الشاعر كان حريصاً على مكافحة فساد الطواحين والقضاء على تلك الطواحين التي تقف حائلة بين استهلاك الحاجة وتوفيرها واحتكارها لنفسها فقط، أما النمل فهم الشعوب الجائعة التي تصرخ مستغيثة للتخلص من انتشار الفساد لتعيش بحبوحة العيش، فقد منعت الطواحين على تلك الشعوب حق الذاكرة والتفكير والتذكر الأفلاطوني في القمح الموجود على البيادر.

فقد عالج الكاتب قضايا إنسانية اجتماعية اقتصادية واضحة المعالم فيها الرمزية الواضحة.

أما في /تذكرة/ فيقول:

موسيقاي/ تشربُها أنفاسُ الصَّقيع/ سكينُ القلق../ تقشيّرُ تفاحة وقتي/ تجيئين في الحافلة الأخيرة/ في الحافلة الأولى تغادرين.../ سبعةُ أيامٍ/ جهةُ السيرٍ/ حَّمى الأسئلة/ لمنْ يُحجز مقعدٌ بقربكِ؟!

يعود هنا إلى سفر التكوين الوجودي، كيف فعل سيدنا آدم وإغواء حواء له لتفاحة زمنية وطرده من الجنة المعهودة لتصبح علة الوجود وبسبب وجوده، وكذلك جعل إبداع الكون في سبعة أيام بحكمة تقديرية وإرادة إلهية وجدلية الحياة بين الموجود الفعلي والوجود المجازي ليعيش الشاعر نوعاً من التذكر لسنين وأعوام خلت حتى فقد ماهية الزمان والمكان تماماً ليصل في ارتقاء أنغام روحه وموسيقاه إلى عالم الأزل، ويندمج مع تلك الموسيقا الكونية في ربيع السماء الأزلية ويناشد المطلق بالمجازية بين الصمت والتفكير وعقدة الكلام الصامت ليحظى بمقعد بقرب أنغام ومقامات الموسيقا السماوية المجردة ولا يعود إلى ذاته إلا بنشوة إيقاعية تشعره بتذكرة السعادة التي عاشها في المقام الموحد.

وفي /كأول الكلام/ يقول:

كان آخرُ الكلام/ كأولِ الكلام./ هدايا السماء النفيسة/ لا يلتقطها إلا/ العابرون في/ الزحام..!

رمز الشاعر إلى مرحلتين مختلفتين إحداهما وجودية مكانية، وثانية إرادة إلهية فالأخيرة هي اقرأ: التي اعتبرها هدايا السماء والتي تحمل معان كثيرة فاقرأ: يعني الإقرار بوجود الحق، واقرأ: الإصرار في الإرادة والعقل واقرأ: معرفة بلا حدود، واقرأ: الحرية للعقل والوصول إلى الجمال ومن هذه الكلمة الأولى التي جعلت منها آخر الكلام وارتباطهما الأول بالآخر كأن جعل اندماجاً بين المعنى لـ"اقرأ" ليصل إلى كلمة أخيرة في جمع الكون بالمحبة.

وهنا الكاتب استطاع أن يجمع بين اقرأ وحب التقاء الهلال والصليب ولعمري يؤخذ من أول الكلام وآخره موقف التوحيد الوجودي لأن المحبة هي هداية السماء النفسية حقاً، والشعوب التي تسعى نحو السلام والاستقرار تلتقط الأول والآخر رغم العابرون في زحام الظلمة الفاسدة.

وكذلك موقف وطني تاريخي للكاتب بتوحيد الهلال والصليب بالمخاطبة العقلانية للبشرية بالسعي نحو المعرفة والعلم والمحبة.

وذكر الأديب "وهيب سراي الدين" أن المجموعة كانت تطوراً حقيقياً عن سابقتها لعدة أسباب من أهمها أنه كثف جملته الشعرية وجعل من قفلتها حدثاً مفاجئاً ليخلق منها قصة، فقد أحسن استخدامها لتقرأ شعراً وقصة قصيرة جداً، من ناحية وتشعر تماماً بإنسانية الشاعر كيف رفع وتيرتها من ناحية أخرى، حقاً سوف ترفد المكتبة العربية بأسلوب أدبي جديد يحمل المعاصرة والحداثة في زمن الصورة الخاطفة السريعة لتتخللها قطرات وحالات الكاتب في لحظة صفاء ذاتي، والغوص في المقام بين العطر المالح الوجودي والعطر الأزلي في عالم الخلود الأبدي.