يقول الكاتب "جورج تاينيت" في كتابه "الكأس الذهبي": علينا أن نخلع "دون كيشوت"، وان ندرك جيدا أن ما واجهه ليس طواحين هوائية ولا أبواب موصدة نحطمها بسيوفنا الخشبية الحمقاء، وإنما نواجه الزمن الذي لم يسمح حتى الآن بأن تصنع تابوتا تستريح به من عناء الانتظار.

ويبدو أن رواية "دون كيشوت" ألهبت خيال الأدباء والفنانين على اختلافهم، مثلما أشعلت خيال أبطالها وخيال كاتبها "سرفانتس" بعد ذلك، وأوحت لهم بالكثير من المقالات والدراسات.

هي مقدمة الأستاذ "منير أبو زين الدين" رئيس المركز الثقافي العربي في "شهبا" عن المحاضرة التي ألقاها الكاتب "خيري الذهبي" بعنوان "دون كيشوت على الطريقة العربية".

في بداية المحاضرة قال الذهبي: إن المحاضرة ألقيت في جامعة "دمشق وفي باريس وبرشلونة"، وقال انه يعول عليها لأن تثير حراكا ما.

وقد عنون محاضرته بـ"دون كيخوتي شاهد البدايات ومبنى النهايات" حيث قال: في مقدمة رواية "دون كيخوتي دي لامانشا": يحدثنا المغامر الشاعر غير المهم وكاتب القصة الذي لم يضع بصحة حتى ذلك الحين في الأدب الاسباني، والمسرحي الذي أراد أن يتنافس مع عملاق المسرح الاسباني "لوبي دوفيغا" نقصر يحدثنا "ميغيل دوسر فانتش" عن مغامر يسميه "دون كيخوتي".

لكنه بعد فصول سوف يقدم لنا الفارس الذي سيدخل التاريخ الأدبي لبني البشر صورة عن الحال بإقامة العدالة بيدين نحيلتين وفرس عجماء ودرع من صفيح وتابع أكرش على حمار ليصبح فيما بعد رمزا لكل الحالمين بإعادة السلام إلى الأرض والقضاء على الظلم والفساد والجشع والدموية.

وفي مقدمة روايته هذه يفاجئنا "سرفانتس" بحكاية صادمة هي العثور على مخطوطة عربية في دروب القناة في مدينة "طليطلة" كتبها مؤرخ عربي يدعى "سيدي حامد بن جبلي أو بن علي".

هذه المخطوطة تتحدث عن مغامرات "دون كيخوتي" في حربه ضد الظلم والفساد وعن سعيه لإعادة العدالة والسلام إلى الأرض، متخذا هيئة فارس من فرسان عهود خلت، أصرت الكتب الشعبية على تحديدهم أبطالا للسلام والعدالة وقهر الظلم.

كل الباحثين والنقاد اعتبروا ادعاء "سيرفانتس" أن مؤلف الرواية "سيدي حامد بن علي" ما هو إلا شخصية متخيلة.

وتابع الأستاذ "خيري" التفاصيل بالقول: انه يعتبر "سرفانتس" لم يعثر على المخطوطة في طليطلة ولكنه عثر على "سيدي حامد" في الجزائر حين كان سرفانتس أسيرا هناك بعد معركة "كون فون". في تلك السنوات الخمس 1575- 1580 اجتمع سرفانتس مع سيدي حامد ليل الغرناطيين الأسبان المسلمين الأندلسين والذين اخرج آباؤهم مع من اخرج بعد سقوط غرناطة ليبدؤوا رحلة الحلم والبكاء على ارض الميعاد والجمال التي طردوا منها.

في تلك السنوات الخمس كان سرفانتس أسيرا فهذه حقيقة تاريخية، ولكن لا توثيق لدينا عمن كان سجانه. لذا يحق لي الكلام- والكلام للذهبي- أن الرسم العربي الوحيد الذي ذكره سرفانتس في روايته كان سجانه ومالك رقبته في انتظار الفدية.

"سيدي حامد بن علي" كان صديقة المثقف الذي وجد نفسه محصورا معه في فضاء واحد يتذكران معا ارض السمن والعسل التي أقامها الأمويون في الأندلس، لتكون جنة العالم الديمقراطي المتسامح في عالم كان يضج بالتعصب والقسوة والدماء وتمجيد القتلة المسمين بالفرسان والمحاربين.

في تلك السنوات الخمس تبادل الاثنان لعب دور "شهرزاد وشهريار" فقص سرفانتس لسيدي حامد قصة اسبانيا، البلد الكبير عسكريا وبشريا في ذلك الحين والبلد الأغنى في العالم آنذاك، وغرق ناسها وبلاطييها بالترف والملذات، لكنههم لم يصبحوا ابيقوريين كاملي الابيقورية لأن هذا الترف كان يصطدم بتشدد الكنيسة المنتصرة على العرب والمسلمين التي في عهدها ظهرت محاكم التفتيش النقطة الأشد سوادا في تاريخ اسبانيا وأوروبا كلها..

وهكذا بقيت الكنيسة بكل قوتها وجبروتها حتى بداية القرن العشرين عندما تحولت اسبانيا إلى جمهورية.

"شهرزاد" السرفانتيسية سوف يروي "لشهريار" سيدي حامد عن ضيفه من هذا التاريخ الاسباني. ليس هذا فحسب بل سيروي عن الأدب الذي يغمر الشعب الاسباني، وهو سير الفرسان العظماء المقاتلين الذين يهزمون الردة والجان والكفار والذين ينتصرون للضعفاء والمساكين. والأدب الجميل هو أدب هزيمة الإنسان أمام قدره وليس انتصاره أمام القدر.

بالمقابل يتحدث "شهرزاد سيدي حامد بن علي" عن سير العظماء والأبطال محققي الفرح والعدل للمجتمع على الضفة الأخرى من المتوسط. فيحدثه عن سلطان مملوكي اسمه "الملك الظاهر" جاء بكتاب عصره وطلب منهم جعله بطلا للمستقبل وليس للحاضر فقط، فكتبوا سيرا ثلاثة له لتكون هذه "منغستو" التي تهيئ للظلم الكامل للسلطان على الضعفاء والمحكومين.

سيقول سيدي حامد: إنها شهوة المعطوبين لتملك يوم العدل والنصر لاستعادة الكرامة. ويتابع سيدي حامد روايته منذ العصور "الهلنستية" وصولا إلى الفاتح العظيم "الإسكندر" فنحن الأمة الوحيدة التي تمجد الفاتح حتى جعلناه نبيا.

وبعد رحلة طويلة قصها "سيدي حامد بن علي" على "سرفانتس" سأله الأخير عن كل هذا وما كان يوحي عن خزان المعرفة هذا. فقال له: كيف وصلت إلى كل هذا العلم وأنت البحار المنفي الآباء من الأندلس المنقطع عن "الإغريقية" و"الغشتالتية" المنفي في هذا العالم؟ فيحدثه سيدي حامد عن الرسالة العالمية التي حملها الشاميون إلى العالم.

فلقد عرفوا أن جنة الأرض هي قبول الآخر، وعدم تكفيره والقبول به كما هو.

ويحدثه عن الإسلام البكر الذي قال: "لكم دينكم ولي ديني" وعلى القول انك لم تهدي من أحببت "الله يهدي من يشاء".