لم يكن للشعر الشعبي أن يأخذ دوره في زحمة الشعر الفصيح بنوعيه العمودي والتفعيلي حتى ظهر مؤخراً الشعر النثري، وبدأت اللغة العربية تعيش حالة من الفوضى الداخلية ليدخل عليها اللحن والتحريف..

وبالتالي كان سبباً في انتشار العامية على حساب الفصحى إلا أن هذا الشعر أطلق عليه تسمية الشعر الشعبي لأنه ولد على أنقاض الشعر الفصيح، ومع ذلك لم يتفق الباحثون والشعراء إلى وقتنا الحالي بآرائهم على تسمية له فمنهم من يطلق عليه الشعر النبطي نسبة إلى الأنباط، ومنهم من يطلق عليه الشعر البدوي وأسماه بعضهم الشعر العامي وآخرون يطلقون عليه الشعبي.

والشعر الشعبي وافد إلى البادية ودخيل عليها كما أنه دخيل على الحاضرة واسم هذا النوع من الشعر عند أهل نجد يدل على أنه قد أتاهم من العراق أو من مشارف الشام فهم يدعونه بالنبطي وكانو يطلقون اسم الأنباط على فلاحي سواد العراق، وبدو مشارف الشام، لأن التحريف لحق اللغة العربية هناك قبل الجزيرة، لكونها أعجمية الأصل وقربها من الأعاجم.

شهادة أمير الشعراء

...لا أحد يعرف متى بدأ ونشأ هذا الشعر الشعبي ولكنه قديم النشأة، ولو غابت النصوص القديمة فإن هذا الشعر الشعبي المعاصر ما هو إلا امتدادا لذلك الشعر القديم. والشعر الشعبي القديم لا نشك في أنه لم يأت دفعة واحدة. ... ولكن أقدم من تحدث عن الشعر البدوي هو المؤرخ العربي المسلم ابن خلدون المتوفى عام 808 هـ فقد أورد عدة نصوص شعرية في مقدمته نسب بعضها إلى شعراء بني هلال وكان ذلك خلال القرن الثامن الهجري .

وأقدم نص يروونه من الشعر النبطي على لسان عليا حبيبة أبي زيد الهلالي في القرن السابع

كتاب باسم عمرو

الهجري، أرسلته إليه وهو في بلاد المغرب يقاتل البربر ومنه :

تقول فتـاة الحـي عليا مثايـل **** ولا قايل مثلهـا في الحـي قايـل

باسم عمرو ومعين العماطوري

يـالله أن تهيي لي طروش لجلهم **** يسيرون ما بين الصخر والقوايـل

كذلك من أقدم القصائد والمشابهه لشعر بني هلال، قصائد تنسب للشاعر جعيثن اليزيدي

في القرن التاسع. هذه الأشعار والقصائد التي وردت في مقدمة ابن خلدون لا تختلف عما هي عليه أشعار عمالقة الشعر الشعبي المعروفين..... وقد أصيب الشعر الشعبي القديم بما أصيب سلفه الشعر الجاهلي الفصيح من انتشار الأمية بين الناس واعتمادهم على الرواية والحفظ والذاكرة، كما أن أدباء الحاضرة كانوا يستهجنونه فضاع منه الشيء الكثير بل الأكثر. ولولا ما تم تدوينه في السنوات الأخيرة لضاع كله. ولم يصل إلينا من أشعار القرون الوسطى إلا النزر اليسير وأقدم من دونت أشعارهم راشد الخلاوي، وأبو حمزة العامري من أهل الإحساء وقطن بن قطن من عمان، ورميزان، وجبر بن سيار من أهل سدير، وقد عاش هؤلاء في القرنين العاشر والحادي عشر الهجري. وكانوا ينظمون الشعر الشعبي على أوزان الشعر العربي الفصيح وتفاعيله وبحوره ولا يقيمون الإعراب لفساد اللغة.

إلى أن جاء الشاعر المشهور محسن الهزاني من أمراء الحريق، فجدد في الشعر الشعبي وأدخل الأوزان المسماة (السامري) ذات القافيتين، لكل شطر قافية حتى آخر القصيدة. ثم تلاه بعد ذلك ابن لعبون فنسخ على منواله وكان أكثر إطلاعاً على الأدب الفصيح. ثم نبغ شعراء كثر من أمثال عبد الله الفرج وابن ربيعة ومحمد القاضي ونمر بن عدوان ومشعان بن هذال وحمود البدر ومحمد العوني وركان بن حثلين وابن سبيل وابن جعيثن وغيرهم ... ثم تطور الشعر الشعبي وانتشر انتشارا واسعا واقبل عليه الناس، وكثر الشعراء، وتعددت أساليب أشعارهم، وأدخلوا على الشعر الكثير من التجديد والابتكارات، والبديع والمحسنات، والتي لا أكون مبالغا إذا قلت أنها أفقدت الشعر النبطي بساطته وسلاسته وانسجامه والأمثلة كثيرة في ما ينشر اليوم من شعر شعبي.

ظل الشعر الشعبي حينا من الدهر لا حافظ له إلا صدور الرواة فدخله كثير من النقص والتحريف ولم يدون إلا في القرن الثالث عشر الهجري.

... وأول كتاب ضم قصائد من الشعر النبطي هو ((ديوان قاسم بن ثاني)) الذي جمعه أصحاب آل ثاني عام 1328هـ. ثم تلاهم الأديب خالد محمد الفرج في جمع شعر الشاعر الكبير المبدع عبد الله الفرج وطبع هذا الديوان في الهند عام 1339هـ، ثم أصدر (ديوان النبط) في كتابين ضما أعظم الشعراء.

وفي عام 1371هـ ظهر أضخم مؤلف جامع في الشعر الشعبي حتى يومنا هذا على يد الأستاذ عبد الله خالد الحاتم ((خيار ما يلتقط من شعر النبط)) في كتابين، وتوالت بعد ذلك الإصدارات في هذا المجال على يد نخبة من المؤلفين.

وفي زمن الانحطاط والغزو الثقافي المعولم وفي غياب الساحة الثقافية العربية المعاصرة الحقيقة والتي تهدف إلى تطوير التراث الشعبي ومعاصرته على ضوء العلم والنص والاختبار بزغ في سماء الشعر الشعبي نجم الشاب الموهوب الحامل ثورة شعرية حقيقة ووثبة منبرية بأداء يحرك شعور المتلقي ويجعله يصفق له من قلبه هو الشاعر باسم غسان عمر الذي أصدر ديوانه الأول بعنوان/ السيف/ على رغم من حداثة سنه وهو مواليد 1983 فهو يجيد أنواع الشعر الشعبي بقوالبه النبطية المختلفة كـ/ الشروقي وأوزانه والهجيني بنوعيه الطويل والقصير في الأداء واللحن والحدا والجوفية أو الهوسة والعتابا وغيره /، ديوانه الذي يقع في أكثر من /190/ صفحة من القطع العادي ضم قصائد قسمها الشاعر باسم غسان عمر إلى القصائد الوطنية ثم القصائد الغزلية ثم القصائد الاجتماعية وأخيراً المراسلات بينه وبين شعراء آخرين.

استطاع أن يربط الماضي بالحاضر ويجعل المعاصرة نصب عينيه من خلال أشعاره التي عالج فيها قضاياه اجتماعية وإنسانية حتى اخترق الأوساط الثقافية ليظهر على شاشة التلفاز السوري وهو في عمر سبعة عشر عاماً وذلك بعد أن حاز على جائزة المزرعة للإبداع الأدبي والفني وقد رعت هذا المهرجان وزارة الثقافة، لينتسب للرابطة العربية للثقافة والفكر والأدب التي مركزها في دبي، حتى حصل على الدرجة الأولى في الشعر والأدب والفصاحة في مسابقات أجريت بالقطر اللبناني، ثم شارك في منتديات الشعر العربي في الخليج العربي وحصل على لقب أمير الشعراء الشباب العرب بقصيدته التي يقول فيها :

مـا كل من شـد القوافـي تـأدب و لا كل من لف العمامة غدا شيخ

ولا كل من حـاز القناعـة تعصب و لا كل من علا وصل للشماريخ

و لا كل كامـي بين ربعـه تعذرب و لا كل نجمٍ لو سطع بات مريخ

و لا كل من شـهد المعامـع تعذب و لا كل طيرٍ لحمه يطيب بالسيخ

و لا كل سيفٍ لو هوا من الدما غب و لا كل رجلٍ تذكرنّـه تواريـخ

تتميز قصائده بالصورة الجميلة الرقيقة التي تشعر المتلقي إلى الحنين الدائم إلى عبق تراب بلده وتاريخه فهو يحمل إيقاعاً شعرياً مميزاً وكأنه يجيد العزف على آلات الإيقاع الموسيقية، لذا تشعر بالاستماع إليه بأنه يطرب المتلقي بالإضافة إلى تحريك مشاعره وأحاسيسه مع مفردات كلماته الجزلة، هذا مع ترديد أشعاره بعد أن تقرأها بشكل تلقائي أي أنه يستطيع أن يأسر قارئه أو متلقيه مع العلم بأن هذا النوع من الشعر لا يحتاج إلى تكرار وترجيع في الجملة الشعرية وهنا نلاحظ أنه استطاع باسم عمر أن يكسر حاجز التقليد ليجعل الحضور يرددون وراءه أشعاره ولعمري أنه أمتلك قدرة جميلة في الأداء والجملة والصورة التي باتت خاطفة هذه الأيام عدا الصورة التي يستخدمها فهي ترجع بقدمها إلى عدة عقود من الزمن ليتذكر بها الأهل وفعلهم وبطولاتهم في ميادين القتال والحرب ضد أعداء الوطن حين يعتز بتشرين بقوله:

تشرين هل وجات معه البـشاير النصـر والتحريـر والعـز للـدار

بتشرين دارت ع المعادي الدواير وصحح خطانـا يـا هلي ليث مغوار

ما تذكروا يومٍ كسـبنا الذخايـر ويومٍ خوت ع المرصد صقورٍ حـرار

شكوا علمنا ونكسـوا كل جايـر واسقوا العدو جرعات علقم وزنجـار

مرحوم يا حافظ حقوق الحرايـر وكل الأمـل بالقـايـد الفـذ بشـار

ويلهب الأفئدة بخطاب الرئيس على مدرج الجامعة بقصائده التي ينخي فيها العرب للوقوف في وجه أعدائنا مع اعتزازه وافتخاره بانتمائه العربي القحطاني العدناني التنوخي عبر التاريخ القديم ويقدم ذاته الوطني بروح المعاصرة تحت راية الوطن الأم سورية التي هي بحق عنوان البطولة والإرادة والعزيمة المحطمة على أبوابها براثن الاستعمار القديم والحديث، من هنا تشعر بأن هذا الشاب الموهوب جعل من تاريخه الماضي عراقة ومن حياته المعاصرة أصالة فقد جمع بين الماضي العريق والحاضر الوثيق بنظرة علمانية فيها الأدب الراقي الرفيع والصور الشعرية المعبرة عن ازدهار الوطن.

أما غزله فهو يتميز بالقصائد الغزلية الهادفة التي منها تستخرج الكبرياء في الحب والرومانسية العطرة في فضاء الإبداع، وبعيداً هن الهم الوطني والغزلي فهو لا يترك النواحي الاجتماعية والوجدانية بعيدة عنه فها هو يكتب للأم وللمضافة ولأهل العمايم وللمغتربين.

يتميز ديوان السيف للشاعر باسم غسان عمر بأنه سيف يقطع وداج القلب بمحبة ويزرع في القلوب رهبة، ويذكرك بالتاريخ وبطولته تارة وبالرجال العظماء الذين دخلوا التاريخ تارة أخرى، لا كما يستخدم السيف اليوم في قطع قوالب الكاتو ويهان في عرفنا العربي بأكثر مما قدمه لنا.

باسم عمر الشاعر الشاب الوديع أتمنى عليه أن لا يسمح للغرور أن يتسلل إلى وجدانه وأعتقد أنه ليس كذلك، ولا يجعل من ديوانه إلا محطة انطلاق ليقدم للجمهور المحب للشعر الشعبي المزيد من الأشعار والقصائد الجميلة بروح المعاصرة والحداثة، وأتمنى عليه أيضاً أن يشترك أكثر في المهرجانات داخل القطر وخارجه كي يكون القدوة الحسنة لجيل من الشباب يعتز بتراثه الشعبي ويفتخر بانتمائه العربي اليعربي وليتعرف العالم أجمع بأن بلادنا العربية تمتلك الإبداع بالفطرة الطبيعية والثقافة الفنية بالحياة الوجدانية، أمثال الشاب باسم عمر وغيره من الشعراء الشباب.