حقّقت ما يعجز عنه الكثيرون على الرغم من الوضع الأمني والمادي المتأزم، وباتت المرأة التي يشار إليها بالبنان لعملها وعلمها وتفانيها في جعل أسرتها متفوقة علمياً وأخلاقياً، وتتحضّر الآن لدخول الجامعة بعد أربعة وأربعين عاماً من العمر المملوء بالخيبات والأحلام المؤجلة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 6 تشرين الثاني 2018، الموظفة والطالبة "هدى يوسف الجباعي" في منزلها بمدينة "شهبا"، لتتحدث عن كيفية حصولها على الشهادة الثانوية بعد الأربعين، فقالت: «كانت أحلامي لا يحدّها شيء، فقد تقدمت لشهادة الثانوية العامة الفرع العلمي سنة 1992، وكنت أول فتاة في قريتي "الشبكي" الواقعة في الريف الشرقي للمحافظة تصل إلى هذه المرحلة من العلم، كنت متيقنة بأنني قادرة أن أكون مهندسة وفق كل المدرسين الذين تابعوا تحصيلي العلمي حينئذٍ، لكن كالعادة تجري الرياح بما لا نشتهي، فقد تقدم إلى خطبتي أحد الشبان الميسورين، ووعدني بأن أكمل الحلم في منزل الزوجية، وكانت خطيئتي الكبرى ترك الدراسة، حيث رفض أن أكمل مشروعي على الرغم من كل محاولاتي بعد أن بتّ ربة منزل كبير.

تدخل ابنتي "مجد" الثانوية العامة هذه السنة، وهي من المتفوقين في مدرسة الفنون النسوية التي اختارتها عن قناعة، وكذلك يطلق ابني "أمجد" خياله الخصب في ابتكار أشكال هندسية، ليصنع السيارات والآلات الكبيرة المتحركة بواسطة الماء، ليعرّف الناس بطموحه في دخول مجال الميكانيك، وسوف أبدأ دراستي الجامعية قريباً، إضافة إلى عملي في مديرية التربية الذي أسعى إلى تحسين موقعي فيه، وأشعر بأن حياتي ابتدأت فعلياً بعد حصولي على شهادة الثانوية

انتهت علاقتي مع زوجي الأول بفشل ذريع، حيث تركت ولدَيّ وهما صغيران من دون أن أتمكن بعد ذلك من رؤيتهما، لأعيش مرارة الفراق وألم الاختيار، وما يطلق عليه المجتمع (القسمة والنصيب)، وكانت مرحلة حياتي الثانية هي التخطيط لبناء بيت محب وأبناء منتجين وقادرين على التفوق، وهو ما تحقق على يد زوجي "عماد الجباعي" الموظف في إحدى دوائر الدولة».

مع عائلتها

وتتابع تفاصيل حياتها الجديدة: «كان العلم ما يأسر حياتي، لكن بناء منزل زوجي سعيد بدعائم لا يمكن هدمها يحتاج إلى التضحية، كانت أعمدة المنزل الجديد ترفع بالعمل المتواصل مني ومن زوجي الذي يخرج صباحاً لتوزيع الخبز على الأهالي، وبعدها ينطلق إلى وظيفته، بينما كنت أحيك الصوف وأخيط الثياب لطالبيها، وفي وقت الفراغ أزرع الأرض المحيطة بالبيت بكل أنواع الأشجار المثمرة، والخضار الموسمية التي تساعدنا على المعيشة. كنا نحرم أنفسنا من كل شيء في سبيل الأبناء وتكملة المنزل. وعندما شعرت بعد انقطاع 28 عاماً عن الدراسة أنه بات بإمكاني العودة، خاصة بعد حصولي على عمل وظيفي في مديرية التربية، ووصول أبنائي إلى سنّ مناسبة في الاعتماد على الذات، قدمت أوراقي وبدأت الدراسة لكن من دون تفرّغ، ولم أستطع القراءة الفعلية إلا قبل عشرة أيام من الامتحان، لكنها كانت كافية للنجاح.

لم تكتمل فرحتي كثيراً، فقد كان "الأربعاء الأسود" يوم 25 تموز الماضي كافياً لقتل الفرح، حيث هاجم الإرهابيون قريتي، وقتلوا أهلي، ونجوت من المجزرة بأعجوبة مع أسرتي، وسكنّا في مدينة "شهبا"، لأعلم بأن امتحان التكميلي بعد أربعة أيام فقط، وأنا أعيش حزني على والدي وأعمامي وأبنائهم، وكذلك حسرة على من خطفوا من نساء وأطفال، لكن زوجي وأبنائي أقنعوني بأن أتقدم لامتحان اللغة الفرنسية والفلسفة كي أثبت للعالم أن العلم قادر على هزيمة الشرّ والإرهاب؛ وهو ما كان».

من أعمالها في المنزل

بعد أن حرق أغلب أثاث منزلها، عادت "هدى" لتصنع من الخياطة وشغل الصوف والإبرة منزلاً جديداً وأنيقاً في "شهبا"، ومع أنها تعيش بعيداً عن زوجها وقريتها بحكم العمل وتعليم الأبناء، إلا أنها ما زالت تمتلك العزم والإرادة على المتابعة لمواصلة مشوار العلم، وأضافت: «تدخل ابنتي "مجد" الثانوية العامة هذه السنة، وهي من المتفوقين في مدرسة الفنون النسوية التي اختارتها عن قناعة، وكذلك يطلق ابني "أمجد" خياله الخصب في ابتكار أشكال هندسية، ليصنع السيارات والآلات الكبيرة المتحركة بواسطة الماء، ليعرّف الناس بطموحه في دخول مجال الميكانيك، وسوف أبدأ دراستي الجامعية قريباً، إضافة إلى عملي في مديرية التربية الذي أسعى إلى تحسين موقعي فيه، وأشعر بأن حياتي ابتدأت فعلياً بعد حصولي على شهادة الثانوية».

طالبة الدكتوراه في جامعة "دمشق"، اختصاص علم نفس "شروق ذياب العريضي"، تحدثت عن حالة "هدى" بالقول: «هي رمز للمرأة المكافحة والطموحة، قوية الشخصية، وتعرف ماذا تريد. داعمة ولا تحتاج إلى الدعم، تستطيع السيطرة على انفعالاتها، ولديها توازن انفعالي كبير. وخلال المعركة الأخيرة في قريتها كانت الضابطة للموقف والمسيطرة على الوضع والمساعدة والداعمة لأبنائها وجيرانها، وعلى الرغم من هول الكارثة واستشهاد والدها وأقاربها، إلا أنها بقيت مصمّمة على إكمال الطموح لتكون قدوة، حتى يتعلم أبناؤها عدم الخوف من الدراسة والامتحان.

أظنّ من خلال خبرتي المتواضعة مع الذين تعرضوا لهذه الظروف أن "هدى" يضرب بها المثل بالطموح والقوة والتوازن الانفعالي وأسلوب التعامل».

يذكر أن "هدى الجباعي" من مواليد "الشبكي" عام 1974.