بطريقته الاجتماعية البسيطة قدّم "خير الدين خضير" نموذجاً إعلامياً فريداً في قريته "الكفر" تناقلته الأجيال عنه، وترك بصماته لجيل كان هو وأمثاله شموعاً أضاءت لمستقبل من بعدهم.

عندما يسرد كبار السنّ تفاصيل أيام مضت يعيدونها على لسان الشيخ "خير الدين"، حيث كان يتقن القراءة والكتابة ليتعرّف ما حوت جرائد ذلك الزمان ومنشوراته من أخبار ويعيدها على مسامع المحيطين به، ويرويها لأهالي ضيعته كنوع من التعريف والإعلام بما يحصل في زاوية أخرى من العالم، حيث كانت الجريدة وسيلة الإعلام الوحيدة التي تصله؛ وفق حديث العم "نايف خضير" الذي نقل جانباً ثرياً من سيرة حياته عبر مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 18 أيلول 2016، للإضاءة على تجربة إنسانية فريدة يرويها أهالي القرية وعايشها معه، وقال: «في زمن ندرة الأخبار وقلتها، وزمن تصارع القوى على بقع واسعة من العالم، تفتح وعيه على ما يجري في مناطق غير منطقته، وبقاع بعيدة عندما كانت الحرب العالمية الثانية تدور رحاها وتتفاعل، فكانت لديه الرغبة بمتابعة جرائد ودوريات فك طلاسمها بما تعلمه من مبادئ القراءة والكتابة المحدودة في ذلك الزمن، وكان يحضرها من "دمشق" من خلال مشواره الطويل للحصول على بضائع لمتجره الوحيد في القرية، ويقوم بقراءتها وتفنيدها مرتباً الأحداث وفق ما رويت، ليكون له في الأيام التالية جلسات طويلة في متجره عندما يزوره أهالي ضيعته متقصدين الاستماع إلى جمال حديث تعوّدوه، وكان يتسع لأكثر من قصص الضيعة وهموم أهلها، ليكون من أخبار جريدة "المصور المصرية" وجرائد وقعت بين يديه مساحة كبيرة يسمعها الحضور بتمعن وتلهف، فكان بحق موثقاً لتلك الفترة في أذهان من حوله، ولم يعد هو ومن اهتم بما ينقل من أخبار عن معارك "الحرب العالمية الثانية" غريباً عن تلك المرحلة التي كانت فيها الجرائد والمنشورات التي تصل بحكم العصر متأخرة، لكنها بالنسبة له مصدر الخبر ومرضية لفضول المعرفة.

في المفكرات التي كتبها مخزون كبير من المعلومات والأحداث عن القرية يوم بيوم، وحسب الأشهر والفصول، لنعود إليها إذا لم نتذكر تاريخ حدث معين، إلى جانب أخبار مميزة وثقها بالاعتماد على المنشورات؛ مثل مواعيد الزراعة، ورشّ المبيدات، والوقاية من الحشرات، والحراثة. وبحكم تلهفه لكل ما هو جديد، فقد اقتنى جهاز راديو، ليكون مصدراً جديداً يروي تعطشه للمعرفة، ويزوّده بأخبار جديدة

وأتذكر أنه بعد مدة اشترك بهذه الجريدة لتصله كل أعدادها أثناء الحرب العالمية الثانية؛ ليصل إلى مرحلة أنه جمع كامل الأعداد التي وصلته، وفي مرحلة متقدمة وبعد عقده السابع قام بتجليدها ضمن خمسة مجلدات ليحتفظ بها كذاكرة لأولاده إلى جانب بعض الصحف والمنشورات الزراعية التي أخذت ترده في تلك الفترة، هذه المجلدات نحتفظ بها لغاية هذا التاريخ؛ لأنها تعني لنا الكثير».

العم أبو جميل نايف خضير يعرض من مجلدات جريدة المصور

كان من أوائل من حصل على جهاز راديو، ومفكراته حوت صوراً عن تاريخ "الكفر"، كمواعيد الأمطار الوفايات، والأحداث الكبرى، كما أضاف العم "نايف خضير"، ويقول: «في المفكرات التي كتبها مخزون كبير من المعلومات والأحداث عن القرية يوم بيوم، وحسب الأشهر والفصول، لنعود إليها إذا لم نتذكر تاريخ حدث معين، إلى جانب أخبار مميزة وثقها بالاعتماد على المنشورات؛ مثل مواعيد الزراعة، ورشّ المبيدات، والوقاية من الحشرات، والحراثة. وبحكم تلهفه لكل ما هو جديد، فقد اقتنى جهاز راديو، ليكون مصدراً جديداً يروي تعطشه للمعرفة، ويزوّده بأخبار جديدة».

كان لعلاقته القريبة مع الشيخ "حسين صادق" أثر إيجابي في التعامل مع المنشورات الزراعية وتقديم مضمونها لأهالي القرية؛ وفق حديث الدكتور "أسامة صادق"، الذي حفظ بالوثيقة والصورة أحداث القرية وكل ما وصل إلى يديه من تاريخ "الكفر"، وقال: «عرف العم "خير الدين" تاجراً مكنته ظروفه المادية من الذهاب إلى "دمشق" لضرورة التجارة بمواعيد متقاربة ومعرفة ما يحدث فيها من تطورات، وكان مع عمي الشيخ "حسين صادق، أبو يوسف" الذي قدم مجموعة من الابتكارات في مجال التصوير والزراعة من الشخصيات المتنورة في القرية، وعلى قدر من المعرفة مكنه من تقديم خدمات من خلال تجارته، والتعريف بما يشاهده من بضائع جديدة وأفكار تساعد أهالي القرية على التعامل بطرائق أكثر حضارية من السابق مع الحياة اليومية ومتطلباتها.

الشيخ خير الدين خضير مع الشيخ حسين صادق وعدد من أهالي قريته

وفي المجال الزراعي كان يحضر من النشرات الزراعية التي تصدرها مديرية الزراعة ويذاكرها جيداً، ويعيدها على مسامع أهالي قريته، مع العلم أن الزراعة مورد رزقهم الوحيد، ليكون في هذه النشرات معلومات وإجابة عن استفسارات مختلفة عن رعاية المحاصيل الزراعية مثل العنب والتفاح، وطرائق استخدام المبيدات الحشرية والتعريف بها، وكان لهذه المواضيع آثار كبيرة في العملية الزراعية الذي كان لعمي "حسين صادق" بصمات كبيرة في تصويبها وطرح أفكار كانت بداية لعمل زراعي تطور في هذه القرية، خاصة أن ذخيرة المعلومات التي كانت تبث عبرها كان لها أثر في التنوير ونشر المعرفة، وتحريض الأهالي على العلم والاطلاع ومجاراة تطورات العصر الذي أخذت تطوراته التقنية والعلمية تفرض وجودها، ولتكون هذه المرحلة مرحلة قطعت فيها قريتنا بجهودهما وجهود من اتفق مع فكرهما المتنور خطوات على طريق التطور؛ لتحسين ظروف الأهالي، والحصول على خدمة الكهرباء، وغيرها».

ما يجدر ذكره، أن الشيخ "خير الدين خضير" ولد في عام 1910، وتوفي عام 1977 إثر حادث سير، ورصيده إلى جانب السمعة وأفكاره المتنورة أعمال اجتماعية وتنويرية ثقافية عرفت عنه، وعدد من المجلدات والنشرات التي وضعها ضمن مجلدات لتكون رصيداً معرفياً لمن بعده.

الدكتور أسامة صادق