بقي "عزّ الدين الحلبي" وفياً لحجارة "البازلت"، يقصبها بيديه ليبني منها المنازل والأسوار، وهو الذي يصنع أدواته الخاصة لتغطي عيب الزمن الذي ابتعد فيه الشباب عن هذه المهنة الجميلة.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 27 تموز 2016، زارت معلم بناء الحجر "عز الدين الحلبي"، واستمعت ممن استفاد من عمله التراثي القاسي، حيث أوضح "يحيى خضير" من أهالي قرية "الكفر" صاحب الورشة التي ينفّذها العم "عزّ الدين" في هذه المرحلة بمفرده، وقال: «على الرغم من لجوء الناس إلى أسلوب البناء الحديث بقي العمّ "عز الدين" منتمياً إلى مهارة بناء الحجارة السوداء التي تكتنز بها منطقتنا، ولأننا نشاركه الرأي بأن البناء بالبازلت متين ومقاوم للزمن، ولدينا معرفة وتجربة معه لنختار الحجر لكل بناء جديد، هذه الورشة عبارة عن خزان للماء يبنيه من الحجر وبعدها نطليه بالإسمنت؛ وهذه الطريقة تجعل الخزان مقاوماً لعوامل الطبيعة.

خلال جولات متكررة على المنطقة للحصول على صور للبلدات القديمة والحديثة لفتني وجود أبنية حديثة بنيت من الحجارة، وبالسؤال عن البنّاء كان اسم العم "عز الدين" يتكرر لكونه أحد الأسماء المعروفة بالمنطقة من خلال هذه المهنة والمهارة التي اشتهر بها، وقد لاحظت مساعيه إلى تطوير العمل من خلال تطوير طرائق البناء من حيث حجم الحجر وشكله، وطرائق تصميم الجدران وارتفاع السقف الذي انخفض بوضوح، وتفاصيل متعددة زادت من سحر وجمال البناء، والأجمل من ذلك المعلومات التي يختزنها هذا الرجل عن مزايا الحجر وطرائق التعامل معه، وهو بذلك يكمل مسيرة الأجداد ويحافظ على ذاكرة مادية ثمينة. وتبقى الأبنية المنجزة شاهدة على حضور هذه الحرفة التي نتمنى أن يتمكن من نقلها إلى الشباب بكل ما امتلكه من مهارات وأساليب للمحافظة عليها من الزوال

مثل هذه الورشة أنجز عدة ورشات لأبنية سكنّاها وكانت متميزة من حيث الشكل والمتانة، وقد فضلنا الحجر على أساليب البناء الحديث لأننا نرتاح لهذا النمط من العمارة، حيث تكاليفه أقل من الحديد والإسمنت ومناسب لطبيعة المنطقة، وعمله بهذه المهارة على الرغم من تخلي الكثيرين عن هذه المهنة يساعدنا ويحقق غايتنا لكونه ينجز الورشة بطريقة فنية جميلة ومهارة عالية، هو يعمل بمفرده من دون الاستعانة بعامل لكونه صمّم أدواته ليقصّ الحجر بالطريقة البدائية وينقلها إلى المكان بيسر وسهولة».

يحيى خضير

عن مهنة رافقها أربعة عقود من حياته، وكانت مصدر رزقه الوحيد وعنواناً لتمسكه بأرضه ورفضه للاغتراب، حدثنا البنّاء "عزّ الدين الحلبي" المولود في قرية "حبران"، فقال: «اختبرت الاغتراب بعمر الرابعة عشرة لكنني لم أرغب بالاستمرار، واخترت هذه المهنة لما تحمله من معانٍ جعلتني أكثر ارتباطاً بالأرض وتمسّكاً بها، وبفضل هذه المهنة الشاقة خططت لحياتي وحياة عائلتي، وكلنا يعلم أن حجارة البازلت كثيفة الانتشار في مناطقنا الوعرة، وكنت أقتلع هذه الصخور والحجارة السوداء الصلبة من جذورها بـ"المخل"، ولذلك كان بنّاء الحجر يطلق عليه اسم "مقلعجي"؛ لأنه يحصل على حجارته المطلوبة للبناء بعناء ووسائل بدائية قديمة.

من هذه الأرض أنتقي الحجارة لهدفين؛ الأول يتعلق بتنظيف أرضي لتصبح صالحة للزراعة، والثاني لأستفيد من حجارتها السوداء لبناء أبنية متينة وقوية، وتبقى حرفة بناء الحجر مزدهرة وموجودة لكل من شاركني عشق هذه الأرض وحجارتها.

العم عز الدين الحلبي مع معداته أثناء العمل

مع هذه المهنة أمضيت سنوات الشباب ولن أتركها ما دامت صحتي جيدة، فمع كل بيت أنجزه كانت علاقتي تزداد مع هذه المهنة التي ورثتها من الأجداد، واكتسبت المعرفة بها من خلال متابعتهم والاستفادة مما وصلوا إليه من فنون قديمة لقصّ الحجر واختبار كثافة الصخرة وطرائق (تشقيفها، وتقصيبها) لهندسة شكل الحجر ليصبح صالحاً للبناء، هي مهنتي التي تحقق لي المتعة على الرغم من العناء، وتستحق أن نحافظ عليها».

عن مسيرة عمله اليومية وكيف صمم معداته الخاصة يحدثنا بتفاصيل العمل العضلي والجهد الحقيقي الذي يقوم به من دون مساعدة، يقول: «التعامل مع الحجارة صعب، ويحتاج إلى جهد كبير، ومنذ سنوات وبفعل هذه الصعوبة لم أجد من يساعدني من الشباب؛ فقررت تصميم معدات خاصة تساعدني على إكمال مسيرة العمل اليومية وإنجاز الورشة من دون عناء كبير، ففي الحقل أستعمل معداتي القديمة مثل "المخل لنقبها، والمهدة لتشقيفها"، ولحل مشكلة نقلها وتحميلها أحضرت عدداً من قطع المورين؛ وهي أخشاب مربعة حزمت أربعاً منها، وثبّتّ عليها حوض عربة حديدية وشددتها بالحبل، ويكفي أن أضع الحجارة بالحوض وأشدّ الحبال لترفع على القاطرة، وبذلك أحمل كمية كبيرة بوقت قصير؛ وهذا ما ساعدني على الاستمرار، وبذات الطريقة وبهذه المعدات وإضافات بسيطة أرفع الحجارة إلى المستوى المطلوب على (السقالة) التي أقف عليها وأقوم بالبناء مع الإسمنت؛ وهي المرحلة الأخيرة.

من المنازل التي أنجزها في قرية حبران

اليوم أمارس عملي بين قرى "حبران"، و"الرحى"، و"الكفر"، وباستمرار لدي عمل، وهذا ما يسعدني ليس فقط للحصول على المال، بل لتجدد رغبة الأهالي بالاعتماد على الحجر، وهو ميزة المنطقة وسرّ جمال أبنيتها عبر العصور».

المصور والموثق "أجود الزغير" تحدث عن ميزة الأبنية وانتشارها الواسع بفعل توافر بنّاء ماهر أكمل عمل من سبقوه، وقال: «خلال جولات متكررة على المنطقة للحصول على صور للبلدات القديمة والحديثة لفتني وجود أبنية حديثة بنيت من الحجارة، وبالسؤال عن البنّاء كان اسم العم "عز الدين" يتكرر لكونه أحد الأسماء المعروفة بالمنطقة من خلال هذه المهنة والمهارة التي اشتهر بها، وقد لاحظت مساعيه إلى تطوير العمل من خلال تطوير طرائق البناء من حيث حجم الحجر وشكله، وطرائق تصميم الجدران وارتفاع السقف الذي انخفض بوضوح، وتفاصيل متعددة زادت من سحر وجمال البناء، والأجمل من ذلك المعلومات التي يختزنها هذا الرجل عن مزايا الحجر وطرائق التعامل معه، وهو بذلك يكمل مسيرة الأجداد ويحافظ على ذاكرة مادية ثمينة. وتبقى الأبنية المنجزة شاهدة على حضور هذه الحرفة التي نتمنى أن يتمكن من نقلها إلى الشباب بكل ما امتلكه من مهارات وأساليب للمحافظة عليها من الزوال».

الجدير بالذكر، أن البنّاء "عز الدين الحلبي" من مواليد 1959، قرية "حبران".