احتفظت الجدة "نزهة زين الدين" بذاكرة حية وروح مرحة طوال أعوامها التسعين؛ التي تعدّ مرجعاً لتاريخ مدينة "شهبا" وأهلها الذين يقصدونها للسؤال عن موعد الولادات والوفيات والحوادث المهمة التي جرت منذ أوائل القرن الماضي، وفترة الاستعمار الفرنسي وما تلاها بتفاصيل دقيقة.

مدونة وطن "eSyria" شاركت مع "لمة محبة" بعيادتها، والتقتها يوم السبت الواقع في 21 تشرين الثاني 2015؛ التي تحدثت بفرح عن سنواتها التسعين بالقول: «ولدت منتصف شهر تموز عام 1925 عندما كانت الثورة السورية الكبرى في عزها لطرد الفرنسيين من أرض الجبل، وأتذكر كل ما كان بعد أن بلغت العاشرة من العمر، مثل الأعراس بتفاصيلها، والولادات والوفيات باليوم، وحاكم المدينة وما كان يصنعه بالناس، وعلاقته معهم، والمشكلات الكثيرة التي حدثت بعد أن استتب لهم الحكم حيث سخّر الناس لشق الطرق وبناء المدارس والبيوت الحكومية، وشق القنوات، وعمل الناس وعلاقتهم مع وجهاء المدينة، كل ذلك مزروع في رأسي كأنه حدث الآن، وأجمل ما أتذكره لقائي مع "أسمهان" زوجة الأمير "حسن الأطرش" التي كانت تأتي دائماً لكي تلعب التنس مع زوجة الحاكم الفرنسي في ملعب مخصص لذلك كان مكانه عند الفرن الآلي الآن، وقد غنت كثيراً هنا في حفلات خاصة، وما زال البيت الذي كانت تأتيه موجوداً إلى الآن، وقد وزع الفرنسيون في كثير من المناسبات التي قدمت إلى هنا ألواح الشوكولا».

هي أمنا كلنا، وتعود معرفتنا بها إلى الحارة التي نقطنها، فهي تعرف جيداً متى ولدنا باليوم، وتعرف أصواتنا من دون أن ترى وجهنا، وهي الذاكرة الحية التي نقصدها كلما احتجنا إلى معرفة أي موضوع عن مدينتنا، والطريقة المتقنة التي تروي فيها القصص عن تاريخ "سورية" منذ عام 1935 حتى الآن تدعو إلى الدهشة وكأنها تسرد مسلسلاً مصوراً بشخصياته وأماكنه، والشيء اللافت للنظر تلك الروح المرحة التي تتمتع بها، والتي تؤكد أنه لولا هذه الروح والنفسية المتواضعة المحبة للناس لما وصلت إلى هذا العمر المديد من دون أن يمس ذاكرتها النسيان

وعن صحتها وكيفية التعامل مع الحياة في ذلك الوقت أضافت: «كانت الحياة بسيطة جداً ولا تعقيدات في تفاصيلها، والتعليم كان يقتصر على الشيوخ قبل أن تأتي فرنسا وتفتح المدارس، وأذكر أن "هدية البيطار" أول متعلمة في المدينة من الفتيات. لكن العمل كان شاقاً والمرأة تعمل مع الرجل في الأرض، ومهماتها مضاعفة لكونها كانت تقوم قبل الفجر من أجل صناعة الخبز، كان الطعام بسيطاً جداً واللباس التقليدي "الزي العربي" هو السائد للنساء والفتيات، ولم تكن الحياة العامة فيها الكثير من الرفاهية بعكس اليوم، وبوجه عام لم أمرض كثيراً ولم أحتج إلى الأطباء لكون ابني الكبير متخصصاً في أمراض النساء، لكن حدث أن كسرت قدمي في السنة الماضية، وفي هذه السنة كسرت قدمي الثانية، وغير ذلك أنا بألف خير بفضل اجتماع أبنائي وأحفادي حولي دائماً».

لوحة لزوجها الراحل.

وتابعت: «هرب الفرنسيون من "شهبا" نهاية كانون الثاني عام 1945 ليلاً من دون أن يشعر بهم أحد، وكانوا طوال مدة حكمهم للمدينة حريصين على إغراء السكان بالوظائف والمال؛ حتى عندما كانت تقام الأعراس كان الحاكم الذي يدعى "ساندريه" يحضر لينثر القطع النقدية على الأطفال والعروسين، وقد وصلت الكهرباء إلى المدينة أيام الأمير "طرودي عامر" منذ 66 عاماً عن طريق مولدة كهربائية كبيرة ما زال مكانها قائماً إلى الآن، ومعها وصلت المياه التي كانت تجر من منطقة "تل المسيح" إلى "تل القلعة"، وأذكر كيف احتفل الناس هنا بالكهرباء التي أراحتنا من أمور كثيرة».

المهندس "فراس البعيني" أحد أحفاد الجدة "نزهة" تحدث عن علاقته بها، وما حفظه من قصصها بالقول: «في أيام العطل نجتمع في بيت جدتي لسماع القصص عن الحياة في "شهبا"، والشيء الذي لا يعلمه الكثيرون أن أي قصة حدثت في المدينة وعليها إشكال ما تقوم جدتي بحسم الأمر من خلال سرد التفاصيل الكاملة؛ حتى لو كان في هذه القصة عدد غير محدود من الناس، وإذا قيل شعر في تلك الحادثة فإنها تقول الشعر كما هو. وإذا كان أي شخص لا يعرف يوم ميلاده فجدتي تعرف موعد ميلاده باليوم، والقابلة التي أشرفت على ولادته، إضافة إلى كل ما يتعلق بالوفيات والأعراس باليوم، وهي تتمتع بصحة جيدة وصاحبة حضور، وتسرد الطرائف بطريقة تجعلك أسيراً لتلك الأيام الغنية بالأحداث».

مع بكرها الطبيب المعروف "جميل زين الدين".

المحامي "دريد دنون" قال: «هي أمنا كلنا، وتعود معرفتنا بها إلى الحارة التي نقطنها، فهي تعرف جيداً متى ولدنا باليوم، وتعرف أصواتنا من دون أن ترى وجهنا، وهي الذاكرة الحية التي نقصدها كلما احتجنا إلى معرفة أي موضوع عن مدينتنا، والطريقة المتقنة التي تروي فيها القصص عن تاريخ "سورية" منذ عام 1935 حتى الآن تدعو إلى الدهشة وكأنها تسرد مسلسلاً مصوراً بشخصياته وأماكنه، والشيء اللافت للنظر تلك الروح المرحة التي تتمتع بها، والتي تؤكد أنه لولا هذه الروح والنفسية المتواضعة المحبة للناس لما وصلت إلى هذا العمر المديد من دون أن يمس ذاكرتها النسيان».