قطعت قدماه بغارة إسرائيلية غادرة على معسكره، فغدا بين ليلة وضحاها عاجزاً بلا قدمين أو ظهر يسنده، اكتشف موهبته في الرسم ونقش السجاد، واخترع دراجة نارية خاصة، وأكملها بمعصرة العنب والتفاح نصف الآلية، وهو الأمي الذي يفك الحرف بمعجزة.

مدونة وطن "eSyria" التقت جريح الحرب السيد "عادل الشحف" في معصرته الواقعة بالقرب من "تل المسيح" جنوب مدينة "شهبا" يوم الجمعة الواقع في 14 تشرين الثاني 2014، الذي تحدث عن إصابته، وكيفية التغلب عليها: «كنا في معسكر "النبك" المخصص لتجميع الجنود في بداية خدمتي الإلزامية عندما أغار العدو الصهيوني بطائراته ليلاً على المعسكر، فاستشهد عدد كبير من زملائي، وراحت قدماي بصورة كاملة، وعلى الرغم من كل الآلام التي أصابتني في الجسد والروح، إلا أن الأيام الطويلة التي قضيتها في المستشفى من أجمل أيام حياتي، وأذكر اليوم التي بقيت فيه سيدة سورية يوماً كاملاً تعالج جراحي، واليوم الذي زارني فيه وزير الدفاع آنذاك الفريق "حافظ الأسد"، وعندما تسلم سدة الرئاسة وزار "شهبا" و"السويداء" استقبلني، وأمر أن أنتقل إلى "دمشق" حيث تم تركيب أطراف صناعية لي بأيدٍ محلية، وتخصيص راتب تقاعدي، وكانت المفاجأة في السرير الذي خصص لي حيث كتب عليه: (سرير الفريق حافظ الأسد)، وهكذا عدت إلى "شهبا"، غير أن الجلوس في البيت كان يزلزل كياني، ويحيلني إلى قطعة قماش لا قيمة لها».

يعد العم "عادل" من أهم الشخصيات التي تصادفها في حياتك، فهو مخترع وشاعر وعازف، ورب أسرة طيبة، وأبناؤه رجال شجعان يعملون بالمعصرة بكل إخلاص وأمانة، والأشياء التي يقوم بها "أبو ربيع" مدعاة للفخر، فيكفي أنه وفّر على المزارعين أعباء مواسمهم من (هرارة) التفاح، وباتوا مطمئنين أن تعبهم لا يذهب هباء

وتابع يسرد تفاصيل حياته: «وفي يوم من الأيام اكتشفت أنني أمتلك موهبة الرسم، ورحت أرسم الوجوه والمناظر الطبيعية وأبيعها، وتعاقدت مع الوحدة الإرشادية لصناعة السجاد من أجل تصميم النقوش على السجاد مدة ثلاث سنوات، وتبعتها بتصميم وتنفيذ الإكسسوارات النسائية، وتعلمت النجارة العربية ونفذت الكثير من البيوت وملحقاتها من الخشب، وألفت الشعر وتعلمت العزف على العود، وفي العام 1975 تزوجت وأسست عائلتي المكونة من أربعة أبناء، وخسرت واحداً منهم إثر مرض خطير، وهم الآن رجال أشداء ويد واحدة، وبسمة العمر الكبيرة، وهم مع والدتهم أصدقائي وعزوتي، ولكن كان لدي رغبة كبيرة بأن أنتهي من واقعي وأقف على قدميّ، واكتشفت طاقة جديدة في داخلي حاولت إخراجها إلى النور من خلال تحويل إعاقتي إلى سلاح يمكنني من قهر الواقع، فاشتريت دراجة نارية، وقمت بقصها من الأمام، وتركيب قسم كامل مقابل الدولاب الخلفي، وجهزته بماكينة خاصة، حتى اشتغل وأصبح فرجة للناس، وحل مشكلاتي كلها في التنقل إلى أي مكان».

آلة فرم التفاح في المعصرة.

انتقل إلى مرحلة مهمة قلبت حياته وحياة عدد من الفلاحين رأساً على عقب، وأنجز معصرة نصف آلية تعد الأولى في المنطقة، وأكد: «كنت قبل العام 2001 أقوم بعصر العنب وتحويله إلى دبس من كرمنا وكرم عمي، وكانت العملية طويلة فهي تعتمد على الأرجل من أجل العصر، كنت أراقب ذلك الأمر مدة خمس سنوات حتى اختمرت الفكرة تماماً في رأسي وبدأت تنفيذ المعصرة في بستاني بالقرب من "تل المسيح"، صممت العصارة في المخرطة، وهي على مبدأ نشّافة الغسالة القديمة ذات الدولابين، وهي التي تقوم بتكسير حبة العنب كخطوة أولية، ومن العصّارة تنزل حبات العنب إلى دولابين تحتهما لطحن العنب، وينزل إلى دولابين يبرمان بعكس الاتجاه، ويوضع "العرمش" في "البدّ" (وهو آلة ضغط يدوية)، ويكبس لإخراج الماء منه حيث يبدأ العصير النزول من خلال البواري إلى "الخلاقين" الكبيرة (الخلقينة: حلة نحاسية كبيرة يغلى فيها العصير ليتحول إلى دبس)، وقبل أن يغلي نقوم بنشله إلى أكياس خاصة مغلقة تماماً، ومن الأكياس الموضوعة بأماكن نظيفة يبدأ السائل النزول نظيفاً إلى بئر صغيرة، وعندما نكتشف صفاءه ندعه ينزل إلى بئر أخرى نسميها (مصفاة) ومن المصفاة إلى مصفاة يدوية إلى "خلقينة" أخرى كخطوة نهائية للطبخ تأخذ ما يقارب الساعة، والنار التي تستخدم للمعصرة صممت مكانها بنفسي من خلال رأس معدني يبث المازوت والهواء معاً، واليوم أستعمل ضغط الهواء لتشغيل بيت النار بواسطة (تفل الزيتون)، وفي كل عام هناك جديد حتى كانت فكرة تحويل المعصرة إلى عصر التفاح لاستخراج الدبس، وقمت بتصميمها والعمل بها منذ ثلاث سنوات، وهي التي ساعدت مزارعي التفاح في التغلب على قسوة الطبيعة».

عقله الكبير لا يتوقف عن التفكير في إيجاد طرائق بديلة لأي مشكلة، وهو مصمم الآن على تنفيذ آلة كبيرة لتحويل الرياح إلى طاقة كهربائية، وقد أوضح ولده الكبير "ربيع الشحف" طريقة العمل لدى والده بالقول: «كل ما تشاهده في المعصرة من تفكيره وعمله، وهو دائم الحرص على تقديم أفضل الخدمات للمزارعين في المعصرة، ففي النهاية هذه المعصرة وفرت الوقت والجهد علينا وعلى الناس، وأمنت لنا مصدر رزق جيداً نعيش منه للتغلب على الصعاب، ووالدي رجل دائم التفاؤل والمرح لا يمكن أن يعكر صفوه شيء، ووجوده في حياتنا نعمة كبيرة من الله، فهو يجمعنا على الحب والعمل، وتراه في المساء حاملاً عوده ليصدح بالغناء جامعاً أصدقاءه وعائلته حوله، ولم أشعر للحظة بأنه يشتكي من إعاقته أو يتذمر من وضعه».

الدراجة النارية المعدلة من تصميمه.

السيد "باسم أبو العز" صديق العائلة، والقريب من السيد "عادل الشحف" تحدث عن العلاقة التي تربطه به بالقول: «يعد العم "عادل" من أهم الشخصيات التي تصادفها في حياتك، فهو مخترع وشاعر وعازف، ورب أسرة طيبة، وأبناؤه رجال شجعان يعملون بالمعصرة بكل إخلاص وأمانة، والأشياء التي يقوم بها "أبو ربيع" مدعاة للفخر، فيكفي أنه وفّر على المزارعين أعباء مواسمهم من (هرارة) التفاح، وباتوا مطمئنين أن تعبهم لا يذهب هباء».

ربيع مع غلي عصير العنب.