سعياً منها لكسب قوت يومها استخدمت "نور الهدى" كل خبرتها التي كانت تختزنها في ذاكرتها، لتبدأ صنع القش بأشكاله وأحجامه المتنوعة، معيدة بذلك إلى الذاكرة صوراً وحكايات من الماضي عن تلك الأدوات البسيطة.

مدونة وطن "eSyria" التقت السيدة "نور الهدى عزام" يوم الأحد الواقع في 17 آب 2014، التي تحدثت عن طفولتها، وما تعلمته فيها: «ولدت في قرية "نجران" عام 1952، حيث كانت الحياة صعبة للغاية، وأهلي أناس بسطاء يعملون بالزراعة، وكانت الفتاة تتعلم منذ الصغر كل فنون الخياطة والتطريز وصناعة القش من (المغمقان إلى الأطباق المتعددة الأشكال إلى الجوّنْ الكثيرة الأحجام والألوان)، وقد حرمت من التعليم بشكل كلي، فالفتيات كن مظلومات كثيراً في ذلك الوقت ومهمتهن الزواج المبكر من أول ابن حلال يطرق الباب، ومساعدة الزوج في الأرض، وكنت في ذلك الوقت قد تعلمت كل ما يتعلق بصناعة القش لما له من أعمال وأهمية في المنزل، فكنا نذهب صغاراً وكباراً بعد أن يصبح القمح على البيدر، وقبل أن يتم درسه بواسطة اللوح (الاسم المحلي للنورج) نقوم بأخذ السنابل الطويلة، ونضعها في قبضة اليد ونقوم بدق سنابلها لنخلصها من القمح، وعندما تصبح لدينا كومة كبيرة من السنابل نقوم بنقعها في الماء حتى تصبح طرية، وهنا يأتي دور الوالدة التي علمتنا كيفية البدء بما نريد إنجازه من القش».

أعرفها منذ أن كنت طفلة صغيرة، فهي المربية التي عاشت من أجل سعادة أبنائها على الرغم من كل المعاناة التي عاشتها، وهي الأم الثكلى التي لم تستسلم لقدرها وراحت تعمل بجد من أجل لقمة العيش، وهي السيدة التي تُعلمنا ما نحاول محوه من الذاكرة، وخلقه من جديد، ومع كل يوم تقطع فيه مسافة طويلة من "بارك" إلى "شهبا" بسنوات عمرها الطويل لتمدنا بالأمل والتفاؤل

وعما دفعها للعمل من جديد في هذه المهنة المنزلية، أضافت: «بعد أن تزوجت في سن مبكرة إلى شاب من قرية "بارك"، كنت أعمل كغيري من النساء في القرية ما يمكّننا من توفير متطلبات المنزل، والأدوات التي تساعدنا في إنجاز أعمال البيدر، وكالعادة كنا نعيش حياة بسيطة مع الأولاد، ولكن موت زوجي المبكر جعل الحِمْل كبيراً على ولدي الذي ما لبث أن ودع الحياة باكراً، وأمام هذا الواقع وجدت نفسي وحيدة، فبناتي كبرن بسرعة، وأتاهن النصيب، ولذلك كان لا بد من العمل لأكسب قوت يومي وأموت بكرامتي كأي أم، وقد سمعت عن معارض للحرف القديمة تقام في "شهبا"، فتعرفت على أصحاب مركز "الفاتن"، وهم بالأصل من قريتي فبدأت العمل معهم، وقد عدت بشكل تلقائي إلى ما كنت أصنعه في الماضي بواسطة (المسلة) والقصل، فعدت من جديد إلى البيادر القريبة، ومن القصل الرقيق الموجود في عدد من النباتات التي تشبه سنابل القمح، وقد عانيت من ذلك الأمر في البداية بسبب قلة المحصول واعتماد الفلاحين على الحصادات، وتغير العادات القديمة بشكل جذري، ولكن بالصبر والتشجيع الذي لاقيته من الناس في أول معرض ساهمت به كنت أتغلب من خلاله على كل ما يعترضني من عثرات».

زاوية للمغمقان الذي نفتقده.

تقول السيدة "نور الهدى" إن وجودها بين مجموعة من النساء جعلها تزداد قوة وإيماناً بغد أفضل، وكأن كل واحدة منهن تكمل الأخرى ليشكلن معاً خليطاً جميلاً، ومن هنا تنبت الأفكار الخلاقة التي تعيد إلى الماضي الجميل رونقه وقيمه، وتضيف: «في المركز تجتمع النسوة من أمكنة مختلفة، ففي الجبل لكل منطقة عادات تختلف بالتفاصيل الصغيرة عن منطقة أخرى، ومن هنا كان العمل على عدد من الحرف الخاصة مثل القش، ففي منطقتنا تكمن الاختلافات في الحشوة الداخلية وفي الزينة، فهناك نساء يفضلن وضع ثلاث قصلات في الحشوة حتى يكون الطبق أو (الجونْي) رقيقاً، وأخريات يضعن خمس قشات، أما الزينة التي تضاف إلى المصنوعات مع القصل العادي اللين فهناك من يصبغ القصل بالألوان المتعددة عن طريق وضع الصبغة في الماء مع مادة تدعى (الفطامة)؛ وهي حارقة بشدة وتقوم بتثبيت اللون، وفي مناطق أخرى تقوم النسوة بوضع الخيطان الملونة بدلاً من القصل، وهناك من يعتمد على القصل المصنوع من النايلون، هذا بالنسبة لصناعة القش، أما الباقي فلكل سيدة دور في جلب المهن والصناعات التقليدية القديمة، مثل صناعة السجاد على النول، وصناعة المكانس، وكل ما يتعلق بالأغذية التقليدية القديمة، وهذا جعلنا نشعر بالحياة على الرغم من أن المبيعات لا تحقق الغاية المرجوة، ولكننا نؤمن بأن الوقت كفيل بأن ينصفنا، والشيء الذي يسعدني أني أجد الوقت مملوءاً بالعمل، وهو ما يبعدني عن التفكير بما حل بي وبعائلتي، ويعطيني العمل القوة الحقيقية لمواجهة الحياة».

السيدة "قفطانية الصحناوي" صاحبة مركز "الفاتن" لصناعة الحرف التقليدية، أوضحت عن علاقتها بالسيدة "نور الهدى" بالقول: «أعرفها منذ أن كنت طفلة صغيرة، فهي المربية التي عاشت من أجل سعادة أبنائها على الرغم من كل المعاناة التي عاشتها، وهي الأم الثكلى التي لم تستسلم لقدرها وراحت تعمل بجد من أجل لقمة العيش، وهي السيدة التي تُعلمنا ما نحاول محوه من الذاكرة، وخلقه من جديد، ومع كل يوم تقطع فيه مسافة طويلة من "بارك" إلى "شهبا" بسنوات عمرها الطويل لتمدنا بالأمل والتفاؤل».

من الأعمال القديمة والحديثة.
في معرضها الأخير تستمر بالأمل.