على أحرف اللغة تربى، ونشأ على التماهي بين كلمات الأدب، وفي قرية "عتيل" كان الأديب العاشق للشعر وحداثته متأثراً بالكثير من معطيات بيئته وما تحمله من قيم روحية وسمت شخصيته الأدبية بروح التجديد والتجريب.

حول بداياته مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 1 نيسان 2014 التقت الأديب الشاعر "جودي حمدان العربيد" ليقول: «تلقيتُ تعليمي الابتدائي في مدرسة القرية، ثم الإعدادي، فالثانوي في مدارس "السويداء". انتسبتُ إلى دار المعلّمين سنة 1965، وفيها تخرّجتُ، ثم تابعتُ دراستي في جامعة "دمشق" كلية الآداب قسم اللغة العربية، وتخرّجت فيها عام 1973، سُحِرتُ منذ نعومة أظفاري بما كتب "جبران ونعيمة"، وأدباء المهجر عموماً، وكنت أتلقّفُ كلّ ما يمكن أن يصل إلى يدي آنذاك من كتبٍ عربية ومترجمة، ما يُطبَعُ في "بيروت ودمشق"، وغيرهما، شأن العديد من أبناء جيل الستينيات من القرن الماضي من المهتمّين بالأدب، ولذلك فقد تعرّفتُ إلى عيون الكتب لأدباء مثل: "طه حسين، وشوقي ضيف، وإحسان عباس، ونزار قباني، وجماعة الديوان، وأبولو" وغيرهم، ممّن لا يتّسع المجالُ لذكرهم في مثل هذا الحيّز، كما تعرّفتُ أدباء عرب، وغير عرب في تلك المرحلة، مثل: "تولستوي، وهيغو، وديكنز، وشكسبير، وديستويفسكي" وآخرون، وأذكرُ أنني صنعتُ مكتبةً خاصة بيدي وأنا دون الخامسة عشرة، وثبتُّها في غرفة النوم، وفيها أكثرُ مؤلّفات الأدباء الذين عُرفوا في تلك الفترة.

يتميز "جودي العربيد" بشاعريته المتوقدة، حيث يتبدى ذلك بسلاسة تعبيره واختياره للمفردات المناسبة للفكرة التي يطرحها، وقد عمل على تطوير قصيدته بشكل لافت من البحر الخليلي إلى قصيدة التفعيلة حيث ظهرت الرشاقة واضحة وجلية من خلال الانزياح الدلالي لمعنى المفردة الواحدة، وعمل على فهم وهضم نقد الشعر والقصة القصيرة، ولذلك انحاز في الفترة الأخيرة إلى كتابة القصة القصيرة وأصدر مجموعة مهمة بعنوان "سوادها غيث"؛ تجاوز فيها البناء التقليدي للقصة حيث طرح أفكاره بأسلوب قصصي بارع

فُتِنتُ بأشعار أدباء المهجر المذكورين آنفاً، وخاصة ديوان "المواكب لجبران، وهمس الجفون لنعيمة"، و"إيليا أبي ماضي، ونزار"، ورواد الحداثة العربية "كالسياب، ونازك، والبياتي"، وغيرهم الذين أثار انتباهَنا إليهم بعض أساتذتنا أمثال المرحوم "صياح الجهيم، ورضوان رضوان، و..."، وفي الجامعة أصبحت الدراسةُ أكثرَ تركيزاً، وعمقاً ووجدتُ طريقي إلى كتب التراث في أكثر من مكان والتقيتُ أساتذةً كباراً».

الشاعر فرحان الخطيب

وعن ذكرياته الجميلة في قريته "عتيل" تابع "العربيد" بالقول: «أجملُ ذكرياتِ العمر بيئتي التي وُلدتُ فيها فأنا نشأتُ في قرية "عتيل" وكلّ ما أذكرُ أنني فتحتُ عيني على محيطٍ مملوء بالخضرة والخصب. كانت "عتيل" أحبّ مكان إلى قلبي ترقد فيه كعقد لؤلؤ على جيد حسناء، في حضن غابةٍ عتيقةٍ من السنديان ترفلُ بالحبّ والخصب والحياة، "عتيل" أغلى ذكرياتي في ساحاتها، ومناهلها، ونبعِ "عين المرج" في جنوبها تأسرُني، كانت سوحُها تجمعُنا وخاصة في ليالي الصيف مع الأتراب والأصحاب، نستعيد أياماً لا أجمل، ولا أحلى، في "عتيل" حبّي الأوّل الذي لا يزول، فيها بدأتُ أكتبُ، أذكرُ أنه ممّن كان يقوم على تعليمنا في المرحلة الابتدائية معلّمة من "دمشق" اسمها "نهلة" هي أوّل مَنْ اطّلع على بداية أوراقي، كانتْ لا تصدّق أنني كاتبها. حتى أكّد لها أخٌ لي كان يعلّم في المدرسة نفسها. ومنذ ذلك الحين لم أتوقّف عن الكتابة ولو في أوقات متباعدة، في المرحلة الإعدادية شاركتُ في بعض نشاطات أدبية في المركز الثقافي القديم في الستينيات، أذكر من شعر البدايات قصيدة منها:

"لاحَ ذاك البرقُ خـجلانَ فحيّا.... يـا لماضينا لـكم كـان بـهيّا

الشاعر والأديب جودي العربيد

كم درجْنا عبْرَ أنفاسِ الروابي.... وشربْنا من ندى الوردِ هنيّا

فاذكـرينا كلّما عـاد ربـيعٌ.... ربّما الذكرى تعيدُ الميتَ حيّا...".

آخر إصدارته

هذا قبل دراستي بحور الشعر وأوزانها، وحين اطّلعَ على القصيدة أستاذنا المرحوم داوود النمر، وكنتُ في السنة الأولى في دار المعلّمين علّق على القصيدة قائلاً: أيّ ماضٍ هذا؟!».

وعن مسيرته الوظيفية أوضح "العربيد" بالقول: «كان الهمُّ الأوّل تأمينَ مستلزمات الحياة المادية، شُغلتُ بذلك، فالواقع الماديّ كان يلقي بظلالٍ ثقيلةٍ على أكثر اهتماماتنا الأخرى، وكان السفرُ بعد مرحلة الجامعة، زرْتُ العديدَ من البلدانِ العربيةِ بقصْدِ العمل مدرّساً، مثل: "الكويت، وليبيا، ولبنان"، بقيتُ عاملاً في تدريس اللغةِ العربية وآدابها أكثرَ من ثلاثين سنة، في القطر، وفي أقطار عربية أخرى، سنواتٌ عجاف، ولذلك تأخّرت بالنشر، لكنّني كنتُ أقرأ وأكتب، ولديّ الآن مجموعاتٌ متنوّعة شعراً ونثراً للصغار والكبار، ما زال العددُ الأكبر منها مخطوطاً، أصدرتُ ثماني مجموعاتٍ شعرية أكثرها صادرٌ عن اتحاد الكتاب العرب، آخرُ الإصدارات مجموعةٌ قصصية بعنوان "سوادها غيث" عام 2013، وقبلها بعامٍ مجموعةٌ شعريةٌ بعنوان "منديلها ورياح الخريف"؛ صادرتان عن اتحاد الكتاب العرب أيضاً، شاركتُ في نشاطاتٍ ثقافيةٍ في أكثرِ محافظات القطر، وفي أقطار عربية منذ عشرين سنة ونيّف، نلتُ خلالها جوائز عدّة ثقافية، ودروعاً تذكارية أعتزُّ بها، ومازلت أحتفظ بها».

في مسيرة الأديب لا بدَّ من أن يتأثّر بأديب ناجحٍ قبله، أو أدباء في عصره أو غيره، خاصة في البدايات، الشاعر "جودي العربيد" يقول: «وأنا على صغر خطواتي أُعجِبتُ بما كتب أدباءُ المهجر عموماً، ثم بكتابات أدباء سبقونا، أمثال نازك، والسياب وغيرهما، إضافةً إلى أدباء رحلوا، وما زالوا يعيشون بيننا، وإن كانوا قد سبقونا بعصور، فلمحاتُ فنّهم ترطّبُ حياتنا، وتوجّهُ أحلامَنا فهم أصحابُ رؤيا في الوجود، والمصير، والفنّ، "كالمتنبي وأبي تمام"، والشعراء الصعاليك، وكذلك أيّ شاعرٍ يعيش بيننا ويمتلك حسّاً عالياً، وتوجّهاً مهمّاً في الحياة، القصيدةُ الآن شأنُها شأن أيّ لونٍ ثقافيٍّ وفنيٍّ آخر في المجتمع، وأرى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون أن يخلق فنّه بنفسه، كذلك هي القصيدة، هي فعلٌ نفسيٌّ لغويٌّ فكريٌّ بمعنى ما، أيّ إنسان لا يمكن أن يعيش مجرّداً من مشاعره وثقافته؟ ستبقى القصيدةُ تصوغُ نفسَها على الرغم من سواد الليلِ، ومرارة المحيط، وقتامة المستقبل، وربّما يكون هذا من أسباب تفوّقها على نفسها، لا بدّ للقصيدة أيضاً من أن تبقى في حالٍ من اصطفاءٍ دائمٍ، وتطوّرٍ دائمٍ، فذلك سمةُ الحياة، كلُّ قصيدةٍ تفرزُ شروطها، وما يعبّر عن معاناة صاحبها، والتنوّعُ ضرورة، يستحيلُ أن نعزف موسيقا الوجود بقيثارةٍ واحدةٍ، آلة واحدةٍ، وفي العصور السالفات كان دائماً الغثُّ إلى جانب السمين، كتابةً وإبداعاً ونشراً. القارئ الحصيفُ يدرك المُمتعَ والمفيدَ، يعرفُ ما يناسبه، والصدقُ الحقيقيّ لا بدّ أن يفرض ذاته، يحزنني أحياناً ضيقُ بعضهم بتجارب غيرهم من أدباء، بل عدم الاهتمام بإنجازات المبدعين أحياناً، مع أنّ الطريق تتّسع للجميع. يحضرُني قولٌ "لنيرودا":

"لا نجمة في سماء الأدب تسطو على ضياء نجمة أخرى".

القصيدةُ تمتلكُ أكثرَ اهتماماتي، إضافةً إلى كتابات أخرى في القصّة، وبعض مقالات في النقد، وغيرها، لا أستطيعُ أن أستيقظ صباحاً دون أن تشاركني صباحي همساتُ قصيدةٍ، في فضاء من نسمات فيروز، وعبق القهوة، يؤلمني الواقعُ، وأضيقُ به ذرعاً، أتوقّع حصولَ الخطر في كلّ حينٍ، مع أنّ حصوله أهونُ من توقّعه، ولكننا نكتب "سورية" الجمال والتاريخ، "سورية" الفنّ والتنوّع، "سورية" مكتبة الإنسانية، لا يمكن لأيّ مُبدعٍ أن يتجاهل ما يدور في بلده، وما يعيشه أهلُه، في ذهني باقةٌ من مشاريع أدبية، ولديّ العديدُ المنجزُ منها شعراً، وقصّةً، ودراسة، أسعى لترى النورَ تباعاً في ما يسمح به الزمانُ، وأرى أنّ المبدع لا يكفيه عمرٌ واحدٌ ليحقّق ما في ذهنه من طموح، وأنا مؤمنٌ بأنّ الشعرَ مفتاحُ الوجود، وسرّ الكون لنستطيع العيشَ في هذه الجنّةِ المتوحّشة».

وحول الشاعر "جودي العربيد" بيّن الشاعر والأديب "فرحان الخطيب" عضو اتحاد الكتاب العرب بالقول: «يتميز "جودي العربيد" بشاعريته المتوقدة، حيث يتبدى ذلك بسلاسة تعبيره واختياره للمفردات المناسبة للفكرة التي يطرحها، وقد عمل على تطوير قصيدته بشكل لافت من البحر الخليلي إلى قصيدة التفعيلة حيث ظهرت الرشاقة واضحة وجلية من خلال الانزياح الدلالي لمعنى المفردة الواحدة، وعمل على فهم وهضم نقد الشعر والقصة القصيرة، ولذلك انحاز في الفترة الأخيرة إلى كتابة القصة القصيرة وأصدر مجموعة مهمة بعنوان "سوادها غيث"؛ تجاوز فيها البناء التقليدي للقصة حيث طرح أفكاره بأسلوب قصصي بارع».