أثبتت علوَّ كعبها وطاقاتها الإبداعية بعد أن تجاوزت الستين من العمر في رحلة مليئة بالمشقات والحلم، فباتت واحدةً من كتاب الأطفال المعروفين في "الإمارات العربية المتحدة"، مكتنزةً مئات الحكايات التي تمتّعُ القلب وتحفظ اللغة العربية.

مدوّنةُ وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 24 أيار 2020 مع المربية والكاتبة "بسمة عبيد" لتروي قصة كفاحها المتعبة مع الحياة، حتى اكتشفت عوالمها الإبداعية، فقالت: «في ستينيات القرن الماضي بدأت مأساتي التي تشبه مآسي كثيرات من بناتنا في تلك الأيام. كنت في الصف الثامن حين تقدم لخطبتي رجل من أثرياء "فنزويلا"، وبما أنّ والدي متوفٍ والوضع المادي سييءٌ نوعاً ما وجدت والدتي العرض مغرٍ جداً للخروج نحو حياة أفضل بتقديرها، وخلال شهر واحد كنت في بيت الزوجية مع رجل يكبرني بأربعة وعشرين عاماً، وفي بلاد غريبة اللغة والناس والهواء، بقيت هناك تسع سنين مقطوعةً عن العالم إلى أن كتب لي طريق العودة لأواصل دراستي بعد انفصالي عن زوجي، فحصلت على الشهادتين الإعدادية والثانوية.

خلال الفترة القصيرة التي عملت بها هنا كرمت للمرة الأولى من قبل إدارة المدرسة، كان التكريم لثلاث سنوات متتالية من قبل وزارة التربية، وقد حضرت وكيلة الوزارة بذاتها لتسليمي التقديرات والهدايا، وهي لحظات لا تنسى في مشواري الطويل

لم أكمل حلمي بدخول الجامعة لأسباب عدة أهمها أنني عدت من غربتي الأولى ومعي أربعة أطفال بحاجة لرعايتي، فعملت معلمة وكيلة في مدارس المحافظة حتى صدر قانون التثبيت، وهكذا صرت معلمة أصيلة، وهذا جزء من أحلامي التي تحققت، حيث كانت الفترة الأطول لي كمعلمة للصف الأول».

سلسلة راشد وغوشة

وتتابع: «صعوبة الحياة مع أربعة أولاد، والدوام في المدرسة لم تترك لي الكثير من الخيارات، ولكن مع ذلك كانت لدي محاولات شعرية بسيطة. كنت أركز في دروسي على سرد القصص للأطفال عن الحروف؛ حتى إنّ بعضهم ما يزال يذكر تلك القصص، وقد بعث لي أحد طلابي الذي صار عازفاً مشهوراً يذكرني بقصة حرف الواو فضحكت من كل قلبي وسررت لأنه تذكرني بتلك الحكاية.

حصل أولادي الأربعة على الشهادة الجامعية، وتحقق حلمي الثاني عندما بات عندي أربع شهادات بدل الواحدة، وبعد أن أنهى ابني الأخير جامعته قرر أن يلتحق بأشقائه في "الإمارات" لكي يبدأ مشواره مع العمل، وبالوقت نفسه اتفق الجميع على أن أكون معهم خاصةً أنني تقاعدت من التدريس، وكانت بداية الأحداث في "سورية" 2011، وهكذا بدأت غربتي الثانية التي أكسبتني الكثير، وأصبح عندي أحفاد، وكونت أصدقاء من مختلف الجنسيات والأديان، وأعيش بينهم بسعادة».

بداية المشوار مع التأليف

وعن بداية الطريق نحو الكتابة للأطفال قالت: «بداية الرحلة لإيجاد عمل هنا كانت صعبةً على الرغم من معارضة أبنائي لأنهم عدّوا أنني تعبت ويجب أن أرتاح، لكنني رفضت البقاء في البيت وبحثت عن عمل، في بداية الطريق عملت بضعة أشهر متطوعةً وبلا أجر، وعندما أثبت مقدرتي عرض علي العمل في المدرسة بنفسها براتب مغرٍ، وقد صممت لإدارة المدرسة (كراسات) لحلّ تمارين مكملة للمنهاج المدرسي، وقاموا بطباعتها وتوزيعها على عدد من الطلاب مكتوب عليها اسمي.

في السنة الثانية عملت مع معهد خاص لتنمية المجتمع، وكان فيه طالبة لديها صعوبة في النطق، وطلبوا مني الاهتمام فيها ودمجها في المجتمع المدرسي، فاشتغلت معها لمدة أربع سنوات حتى أصبحت طبيعية تماماً».

أما فيما يتعلق بالكتابة للطفل، فقالت: «تجربتي كمعلمة وكأم وجدّة لها دور كبير في ذلك، بدأت أكتب لأحفادي وأقرأ لهم، فأبقي ما يعجبهم وأبدل ما لا يفهمونه، الكتابة للطفل من أصعب الأعمال الإبداعية، والخطيرة أيضاً، لأنّ الطفل كقطعة معجون تشكّله بأناملك كما تريد، اعتمدت البساطة والسلاسة في التعبير، وعلى ذكاء الطفل اللا محدود، وأسعفتني الرسومات الجميلة التي ساهمت في جذب الأطفال إلى القصة.

البداية كانت مع مجموعتي التي كتبتها قبل سفري إلى "الإمارات" ولكن عدّلتُ عليها كثيراً إلى أن أصبحت جاهزةً، وبعد معاناة مع دور النشر وجدت ضالتي في مدينة "السويداء" على الرغم من التكاليف المادية العالية للطباعة، والمجموعة المنشورة عبارة عن أربعة كتب صغيرة، الأول بعنوان "نملة تميم وفرشاة الأسنان"، والثاني "الأشكال الهندسية"، والثالث "إشارات المرور"، والأخير "حكايات جدتي".

كما نشرت مجموعة لتعليم اللغة العربية، وهذه استوحيتها حقيقة من خلال عملي وإدراكي لضعف الطلاب بهذه المادة، فكتبت لهم بأسلوبهم، وقد أحدثت فرقاً ولو قليلاً، فكثيراً منهم عادوا للقراءة بلغتهم الأم. والمجموعة الأخيرة كانت عن تراث إمارة "الشارقة"، وهي عبارة عن سلسلة من ست قصص حملت عنوان "حكايات راشد وعوشة".

وقد كان لأحفادي الدور الرئيسي في المواضيع التي أكتبها، وعندما أقول لك أحفادي لا أقصد فقط أولاد أولادي، بل أقصد كل طفل رأيته وتعاملت معه ولو لمرة واحدة، ودائماً أشعر أني سأموت وأنا ألاحق حلمي، وربما يسعفني الوقت لذلك، فالعمر لا يحسب بعدد السنين».

كرمت من جهات حكومية وخاصة لعملها في التربية والتأليف، وأضافت عن ذلك: «خلال الفترة القصيرة التي عملت بها هنا كرمت للمرة الأولى من قبل إدارة المدرسة، كان التكريم لثلاث سنوات متتالية من قبل وزارة التربية، وقد حضرت وكيلة الوزارة بذاتها لتسليمي التقديرات والهدايا، وهي لحظات لا تنسى في مشواري الطويل».

الكاتبة والمترجمة المعروفة "سلمى سلامة عبيد" تحدثت عن تجربة "بسمة" بالقول: «سافرت بعد التقاعد لتكون مع أبنائها، ولكنها لم تقبل أن تجلس طوال اليوم تحدق في شاشة التلفاز، أو تشارك في جلسات التبصير بالقهوة، بل قامت بجولة على المدارس باحثة عن عمل، وعندما لم تجد وظيفة عرضت أن تتطوع للعمل مجاناً وبعد أن أثبتت جدارة وتمكّناً، تعلّق الأطفال بهذه الجدة الحنون المعطاءة عُرض عليها وظيفة دائمة، وأتاحت لها المدرسة أن تقوم بتأليف كراسات تعليمية للأطفال؛ مستفيدة من تجربتها الطويلة، نجاح الكراسات شجعها على أن تقوم بوضع سلسلة قصص تربوية للأطفال من أربعة أجزاء بمواضيع مختلفة، مكتوبة بأسلوب ممتع، ومزينة بالرسوم الجميلة.

نجاح السلسلة الأولى شجعها على المزيد، وصدرت لها سلسلة ثانية من أربعة كتب مصوّرة قدمت فيها بعض قواعد اللغة العربية بطريقة مشوّقة للطفل، وجاءتها فرصة جميلة عندما أُعلن في "الإمارات" عن مسابقة لكتابة معلومات تاريخية من خلال قصص موجهه للأطفال، وفازت رغم كثرة المتسابقين، وصدر لها كتابان سلسلة "راشد وغوشة" بطباعة أنيقة، ورسوم تزيينية جميلة.

عانت يتماً وزواجاً مبكراً، وأمومة في بلاد الغربة لم تكن مستعدة لها، لم ترحمها الحياة، ولكنها لم تنكسر، ولم تجلس نادبة حظها بل حولت كل آلامها ومعاناتها إلى عطاء.

"بسمة عبيد" رمتها الحياة بكل ما في جعبتها من آلام وسهام، فحوّلت السهام إلى أقلام تزرع البسمة والثقافة والنجاح».

يذكر أنّ المربية الكاتبة "بسمة سلمان علي عبيد" من مواليد مدينة "السويداء" عام 1950، مقيمة في "الإمارات".