باع الجد الفرس ليشتري تذكرة الباخرة لبلاد الغربة، وبقيت في عينيه صورة "المرشحة" (السرج) التي تزين الفرس، والتي حملها الجد عائداً إلى البيت، وحمّل "غالب صلاح" نفسه مسؤولية النجاح ليعوض الفرس.

مدونة وطن "eSyria"، حاولت التعرف إلى تجربة المغترب، من خلال أهالي قريته الذين تعرّفوه في رحلاته المتقطعة، مندمجاً بالحياة الاجتماعية، ومنهم "سعيد صلاح الحناوي" الذي تحدث عن بصماته الواضحة في مجال تشجيع التعليم في القرية، فقال: «يقتنع العم "غالب" بأن أبناء قريته "سهوة بلاطة" ما كانوا ليتجهوا إلى السفر ومعاناته، أو على الأقل كانوا أقدر على تحمل المشاق، لو تعلموا ونالوا الشهادات العلمية، دالاً على ولعه بمشروع التعليم في القرية، وهو المندفع لمتابعة نتائج الطلاب وتكريم المتفوقين، ودعم عدد منهم لإكمال الدارسة، هذه الفكرة التي أسسها منذ خمسة عشر عاماً بقيت متفاعلة، ليكون في كل عام حفل سنوي يرعاه لتكريس فكرة طلب العلم وتشجيع أبناء القرية، ويترك الأثر الطيب في نفوس الأجيال الشابة التي تعرفته عن قرب بفعل هذا العمل، وحضوره المتميز خلال الإجازات، وكانت بادرته خطوة دفعت الكثيرين من أهالي القرية للاقتداء به، فهو ابن "السهوة" البار، ومثال المغترب المتمسك بأرضه ومحبة أهله».

لا مكان للعواطف عندما تجد نفسك في مكان سارت إليه الباخرة في البحر أكثر من شهر، هنا مكان الشخص للبحث عن فرصته، وفي ذاك الزمان كان العمل المتاح ما يسمى "الكشة"، وهي كيس البضاعة التي يحملها الشاب ويدور بها في الأحياء، يعرضها على السكان بما تيسر له من مفردات، والتجربة بقدر الخطر المقترن بها إنما هي فرصة المهاجر الوحيدة لتعلم اللغة، ليجني بعض المال الذي يكفي به مصاريفه البسيطة، لكن إذا استطاع تعلم اللغة فهو قادر على اجتياز مرحلة مهمة، وتصبح لديه القدرة -كما حدث معي- لأنطلق بعملي الخاص الذي أسسته، وأستمر بالتطور، ليحقق لي الاستقرار المادي المطلوب، وبقيت مستقراً لحوالي عشر سنوات في منطقة تدعى "بارينا"، ولي أعمال فيها لغاية هذا التاريخ

عندما تحدث المغترب "غالب صلاح" في لقاء بتاريخ 1 نيسان 2015، وهو في إحدى الإجازات في قريته قرية "سهوة بلاطة" أعاد شريط الذاكرة، وحدثنا عن تفاصيل بداية الرحلة، فقال: «الاغتراب حالة من اغتراب الروح التي تعود إلى الوطن عندما نضطر للاستقرار في بلد بعيد، نعمل ونكد لكن الروح هناك في بلدنا، ففي سنوات سفري الأولى التي هي عشرون عاماً متواصلة، بدأت في عام 1955 تغادرني الروح إلى قريتي، حيث الجد الذي حمل "مرشحة" الفرس عائداً إلى المنزل بعد أن باع فرسه الوحيد ليتمكن من شراء تذكرة السفر لي، في ذلك الزمن لم يكن للمسافر فرصة العبور في السماء؛ فقد غادرنا إلى فنزويلا بواسطة الباخرة، وانطلقنا من بيروت، وكانت الرحلة شاقة لأننا نعبر إلى عالم مجهول، فلم يكن لدينا في ذلك الزمن أي معلومة أو فكرة عن المكان المقصود، هي محاولة البحث عن حياة جديدة مقوماتها طلب الرزق، ولا ضمان لنا إلا بضعة دولارات في الجيب قد لا تكفي لعدة أيام في ذلك البلد».

سعيد صلاح الحناوي

عن العمل وكيف أسس لتجارته التي استمرت لغاية هذا اليوم في ذلك البلد، يخبرنا العم "غالب" بالقول: «لا مكان للعواطف عندما تجد نفسك في مكان سارت إليه الباخرة في البحر أكثر من شهر، هنا مكان الشخص للبحث عن فرصته، وفي ذاك الزمان كان العمل المتاح ما يسمى "الكشة"، وهي كيس البضاعة التي يحملها الشاب ويدور بها في الأحياء، يعرضها على السكان بما تيسر له من مفردات، والتجربة بقدر الخطر المقترن بها إنما هي فرصة المهاجر الوحيدة لتعلم اللغة، ليجني بعض المال الذي يكفي به مصاريفه البسيطة، لكن إذا استطاع تعلم اللغة فهو قادر على اجتياز مرحلة مهمة، وتصبح لديه القدرة -كما حدث معي- لأنطلق بعملي الخاص الذي أسسته، وأستمر بالتطور، ليحقق لي الاستقرار المادي المطلوب، وبقيت مستقراً لحوالي عشر سنوات في منطقة تدعى "بارينا"، ولي أعمال فيها لغاية هذا التاريخ».

سلوك المغترب وتصرفه رسالة وحالة تعبر عن تربيته، وما تعوده في بلده، وهي الكفيلة بالتعريف به وتكوين شخصيته في بلاد الغربة، عندما تحدث عن تجربته قال: «بعد سنوات من العمل والسكن بالقرب من مغتربين عرب من سورية ولبنان، كوّنا مجموعة، لكن كانت المعاناة برؤية بعض الجاليات لنا كعرب، وكنا واضحين بهدف العمل لتقديم الصورة المشرقة عنا كمجموعة عربية، وكانت لي تجربة في إحدى حالات الطوفان الذي طال المدينة، وكان فريق العمل القائم على جمع التبرعات لإصلاح المنطقة إيطالياً، ولم يكن ليقترب منا نحن أصحاب الشركات وفق نظرته أننا لن نقدم على التعاون وتقديم التبرع المطلوب، لكننا كمجموعة -كنت صاحب القرار فيها- قدمنا أنفسنا، ويومها قدمت بضاعة أحد مستودعاتي كتبرع، وكانت خطوة أولى جعلتنا قوة يطلب رأينا ونسأل في شؤون البلد، وهي تجربة من عدة تجارب استمرت حتى بعد الرحلات المتقطعة للبلاد ومحاولات الاستقرار، لأكون قريباً من الشباب وأدعمهم للتحصيل العلمي لأنه السبيل الوحيد للمستقبل».

المغترب غالب صلاح في حفل تكريم الطلاب المتفوقين

"آصف قسام الحناوي" من أهالي القرية ينقل من متابعته لهذه الشخصية المعروفة بحضورها، قال: «حقق المغترب "غالب صلاح" حضوراً متميزاً في قريته، لكونه من أوائل المغتربين، وعمل في زيارته الأولى على تقديم المساعدة لأهالي قريته، لكونه شجع الشباب على الاستقرار، ومحاولة العمل في الوطن، وكانت له بصمات خيرة على مختلف الأنشطة الاجتماعية في القرية، وكان في المجمل القادر على تقديم النصيحة للشباب الذين امتلكوا نية السفر والاغتراب، لأن تجربته ناجحة، ورغم سنوات العمر التي قادته للعقد الثامن، لكنه مثال للشباب في الحيوية والعمل، ينفذ عملاً زراعياً أسسه في قريته ليعزز علاقته مع هذه الأرض، وكان مع غيره من الشبان المغتربين المحرك لحركة نهضة وتطور في القرية، تبدأ بالعمران ولا تقف عند الخدمات الاجتماعية، مع أنه لغاية هذا التاريخ يتنقل بين البلدين ويمارس عمله دون كلل أو ملل».

الجدير بالذكر، أن المغترب "غالب صلاح" من مواليد "سهوة بلاطة" عام 1937.

آصف قسام الحناوي