لم يبلغ الثانية عشرة من العمر حين ودع أهله في قرية "رامي" وسافر إلى دول الخليج، ليكون بعد نصف قرن أحد المغتربين الذين رسموا خطاً ومنهجاً قوامه الانتماء وحب الخير وتشجيع التنمية مبتدئاً بقريته.

إنه المغترب "محسن مقلد" الذي استطاع أن يحمل الوطن في قلبه، فأصبح أنموذجاً يحتذى به في الصدق وحسن المعاملة، وللحديث حول أعماله مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 9 كانون الأول 2013 التقت الأستاذ "أكرم الغطريف" المصور المهتم بالقضايا الاجتماعية فبيّن بالقول: «عرف المغترب "محسن مقلد" بأنه أحد أهم المغتربين الذين ساهموا في خلق فرص عمل، وعمل على بناء العديد من المشاريع التنموية والاستثمارية لمصلحة قريته "رامي" ومدينته "السويداء"، خاصة أنه يعدّ من المحسنين الكبار بتبرعاته لأصحاب الحاجة ومن مؤسسي الجمعيات الخيرية، عمل ومازال على نشر ثقافة العمل الطوعي من أجل رسم ابتسامة على شفاه الأطفال قبل الكبار، ووصيته الأولى العلم والتعلم، لقناعته أن العلم يبني بيوتاً لا عماد لها، ولهذا قدم إلى المجتمع خمس شهادات جامعية بدرجات عليا وهم يقومون دوماً بالعمل التطوعي في مجال الخدمات الاجتماعية والإنسانية».

منذ تخرجنا أنا وإخوتي في الجامعات ونال كل منا شهادته الجامعية جمعنا والدي وقال موجهاً كلامه لكل منا: "أنت يا بني طبيب ماذا تتوقع أن تنتج سنوياً من رصيد مالي؟ خاطبناه كل منا بمبلغ معين خلال العام، فكان جوابه: أنا سأمنح لكل منكم مبلغاً ضعف إنتاجكم شرط أن تكونوا في خدمة أبناء المجتمع مجاناً، ولهذا لم أستطع أن أفتح عيادة لأن عيادتي هي مجاناً في المنزل بـ"السويداء" وفي قريتي "رامي"، كذلك إخوتي، وصيته لنا وحرصه على العلم جعلنا نتقيد بكوابل محبة المجتمع وأبنائه، والحمد لله أننا نقوم بتنفيذ توجيهاته لنا

عن حياته ونشأته بين المغترب "محسن مقلد" الملقب بـ"أبي عدنان" بالقول: «لم أكن أحسب أنني سأكون من مواليد قريتي "رامي" التي تبعد عن مدينة "السويداء" أكثر من خمسة وثلاثين كيلو متراً، بل لعل عام 1939 كان العام الذي أستنشق به هواء هذه القرية الجميلة المتميزة بانتساب أبنائها إلى جد واحد فهم جميعاً أولاد عمومة متقاربون، لكن جمال القرية لا يعني أنها تعيش في رفاهية بل كانت المعاناة تكتنف كل منزل فيها، لهذا لم أستطع أن أتعلم إلا في المرحلة الابتدائية، لأقترض مبلغ عشر ليرات سورية وأقصد لبنان وأنا لم أبلغ بعد الحادية عشرة من العمر للعمل في أفرانها، وفي الخشب و"الباتون"، حيث وقعت لي حادثة أفقدتني عيني اليمنى، وعاد بي والدي إلى "السويداء"، وفي منتصف العقد الثاني من عمري قدمت إلى أحد الأشخاص ديك دجاج مقابل جواز سفر، وشجعت قريباي "نجم وسالم" وسافرنا معاً عام 1958 إلى "الكويت"».

الأستاذ أكرم الغطريف

وعن عمله في "الكويت" أشار المغترب "محسن مقلد" بالقول: «عملت في بلاد الاغتراب بالمقاولات، وكان الوضع الاقتصادي سيئاً بسبب تأثير ثورة "عبد الكريم الخطابي" في المنطقة، لكن بعد مدة تحسن شيئاً فشيئاً، حتى استطعت أن أقيم في "الكويت" مع أبنائي الخمسة وابنتي، لم يكن همي الأكبر جمع المال بقدر اكتساب العلم، لكن وصاية والدي لي لم تكن بعيدة عن ذاكرتي فقد عملت مع الجالية السورية وأصبحت عضو مجلس الجالية لأكثر من ثلاثة عقود، حيث لا يذهب أحد من أبناء "سورية" إلا وأكون في استقباله وتأمين فرص العمل له، خاصة ممن كانوا يدخلون بطريقة التهريب عن الحدود العراقية من بلدة "صفوان"، فإذا ما عرفت الشرطة أن الموجودين من "سورية" عامة ومن "السويداء" خاصة تستقبلهم وتكرمهم بينما أحضر وأقوم بإنجاز الأوراق الرسمية لهم وإدخالهم بشكل نظامي إلى "الكويت"، حيث عملنا كجالية على تجسيد الثقافة السورية والارتباط بالوطن، وأذكر في احتفالات "الكويت" كنا نتقدم ونرفع العلم السوري ونحن نحدو حوله بالأهازيج.

ولعل الحدث الأبرز كان إحداث مدرستين: "اليعربية وحطين" في "الكويت"، كانت تكاليفهما على الجالية والتدريب والأساتذة سوريين، بهدف التواصل مع أبناء الوطن».

المغترب محسن مقلد

وحول حنينه إلى أرض الوطن أوضح المغترب "محسن مقلد" بالقول: «كان الحنين إلى الوطن وإلى أرضه يداعب خيالنا دائماً فإذا سنحت لي فرصة آتي وأقوم بشراء الأراضي الزراعية لأنني وعدت والدي الذي ترك إرثاً لنا عشرة دونمات ألا أعود قبل أن يصبح إرثه ألف دونم، وهكذا جرى فعلاً لذلك قمت بشراء 180 دونماً في قرية "الثعلة" ووضعت فيها أيدٍ عاملة، وكذلك في قرية "الطيبة" 100 دونم، و450 دونماً في قرية "الهيت"، و150 دونماً بساتين مشجّرة في قرية "سالي"، وفي كل قرية أعمل على خلق فرص عمل لأبنائها في الأرض، وقمت بشراء أراضٍ للبناء وأقمت أبنية، ومع مساعدة الجهات الرسمية عملنا مشاريع خيرية كمشروع صرف صحي لقريتي "رامي" بمبلغ ناف عن 43 مليون ل.س، وأقمنا بناء للبلدية بتكلفة تزيد على 8 ملايين ل.س، إضافة إلى شق الطرق وكذلك صالة للأفراح والأتراح، والأهم الموقف الاجتماعي وهو ضخم يتسع لأكثر من ثلاثة آلاف شخص، وتأسيس جمعية فلاحية، وبالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر والهيئات الدينية أحدثنا مركزاً صحياً ومستوصفاً وهي خيرية، لأن هدفي كان العلم وحبي للعلم لا يقدر، عملت على دراسة أبنائي في "يوغسلافيا" وتخرج كل من "عدنان وحسام وغسان" أطباء في اختصاصات متنوعة، و"ثائر ونضال" في الهندسة، وابنتي كذلك، وبعد نصف قرن من الاغتراب عدت إلى أرض الوطن الغالي عام 2005 لأكون بين أهلي وأقربائي أقوم بالواجبات الاجتماعية والإنسانية قدر المستطاع».

الابن الأكبر للمغترب "محسن مقلد" الدكتور "عدنان مقلد" أشار إلى اهتمام والده بالمجتمع قائلاً: «منذ تخرجنا أنا وإخوتي في الجامعات ونال كل منا شهادته الجامعية جمعنا والدي وقال موجهاً كلامه لكل منا: "أنت يا بني طبيب ماذا تتوقع أن تنتج سنوياً من رصيد مالي؟ خاطبناه كل منا بمبلغ معين خلال العام، فكان جوابه: أنا سأمنح لكل منكم مبلغاً ضعف إنتاجكم شرط أن تكونوا في خدمة أبناء المجتمع مجاناً، ولهذا لم أستطع أن أفتح عيادة لأن عيادتي هي مجاناً في المنزل بـ"السويداء" وفي قريتي "رامي"، كذلك إخوتي، وصيته لنا وحرصه على العلم جعلنا نتقيد بكوابل محبة المجتمع وأبنائه، والحمد لله أننا نقوم بتنفيذ توجيهاته لنا».

الدكتور عدنان مقلد

الجدير بالذكر أن وصية المغترب "محسن مقلد" هي العلم والتربية الحسنة ووضعهما في خدمة المجتمع.