يعيش الكاتب والشاعر والروائي غربة بين محيطه ومجتمعه ووسطه الإبداعي، ويشعر دائماً بغربة بين المكان والصورة والمتخيل الذي أراد أن يكونه في تشكيل خطه الأدبي والفكري والثقافي.

حول الإحساس بالغربة واختيار بعض الأدباء ممن عاشوا الاغتراب، مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 5 تشرين الأول 2014، التقت الأديب والكاتب "خليل البيطار" عضو اتحاد الكتاب العرب، فبيّن قائلاً: «إحساس الكاتب بالغربة شديد الإيلام، وهو لا يدري أي الاسباب أكثر توليداً لهذا الإحساس، أهو حضوره القوي رغم سعي القوى المتنفذة إلى تغييبه؟ أم هو احتفاظه برؤية مستقلة ونفس حرة رغم أشكال الحصار العلنية والخفية؟ أم هو امتلاكه لأدواته الفنية وتجديدها؟ وهذا يجعله غير مفهوم، ومثيراً للسجالات النقدية.

كثر هم الكتاب الذين ملكوا تجربة أدبية غنية، وقد لا تسعف الذاكرة تعدادهم، ولكنهم عانوا ما عانوه من الغربة، لأن الكتابة عمل مواجهة بين طبقات المجتمع والفئات الاجتماعية، عاشوا غربة المكان، وغربة الزمان، وغربة الذات بين سلطة الذات وسلطة الواقع، وظلت سلطة النص تعيش معهم دون مبالاة لشيء، فهم من أكدوا تثبيت الصورة والمتخيل، وهم من رنوا نحو الجمال وجسدوا وحولوا واقعهم المرير إلى أنشودة أمل، واثقين أن أدبهم هو الأمل الباعث في نفوس الناس. ليس الأهم أن يبتعد الكاتب عن مكانه بل أن يشعر بغربة وهو داخل المكان، لربما كان ذلك متوافراً بين عدد من الكتاب والأدباء من القديم وإلى وقتنا الحالي، مما اختاره الأديب "البيطار" من شخصيات أدبية عاشت الاغتراب والغربة الجغرافية والنفسية والأدبية

أرى أن الغربة هي ضريبة الإبداع الحقيقي، سنعود بذاكرتنا إلى مبدعين رحلوا وهم يحسّون بغربة موجعة: "التوحيدي، وعزيز نيسين، ويوسف إدريس، وسميح القاسم، وسعد الله ونوس"، كانوا يسقطون الأقنعة ويصارعون الموت في كل خطوة وكل صفحة وكل إشارة، وكانوا مثل طيور النار أو طيور الفينيق أو طيور الرعد، يقضّ مضاجعهم مشروع وطن لا متسع فيه لابتسامة أو لتعبير ساخر، فهذا التوحيدي يشير إلى محنته وغربته المركبة، ويقول: "الغريب مَن إذا ذكر الحق هُجِر، وإذا دعا إلى الحق زُجر، الغريب مَن إذا أسند كُذِّب، وإذا تظاهر عُذِّب، وإذا امتار لم يمر، وإذا قعد لم يزر، يا رحمتا للغريب: طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى".

الكاتب والأديب إسماعيل الملحم

وغربة "سعد الله ونوس" طائر الفينيق السوري، و"سميح القاسم" طائر الرعد الفلسطيني، هي الأقسى في زمن التشوه والأقنعة المتراكبة والسمسرة والبلاهة القطيعية والجحود، إذ دخل الموت بأدواته كلها ضمن خط حصارهما، وأدخلهما في سباق لا يعرف الرحمة مع الزمن، لكنهما لم يقعا تحت تأثير الهلع من اقتراب نهاية رحلتهما، وأهديا القراء مسرحيات مثل: "طقوس الإشارات والتحولات"، و"الأيام المخمورة"، وقصائد تحولت إلى أناشيد متجذرة في الذاكرة الشعبية، وفي رحم الأرض، مثل قصائد "قميصنا البالي، وسقوط الأقنعة، وطائر الرعد"، وفي قصيدة "قميصنا البالي" من مجموعة "دمي على كفي" يقول الشاعر "سميح القاسم":

لم تفهمي.. وصغيرك الغالي.. لم يدر أن قميصه البالي..

الكاتب والأديب خليل البيطار

ما دام يخفق في رياح الحزن والشدة.. ستظل تخفق راية العودة..

فخذي أخاه وأفهميه.. أن المذلة أن يبيع ثرى أبيه..

وأفهميه.. أن اختلاج الروح في البذرة.. أقوى من الصخرة....".

وفي قصيدة "سقوط الأقنعة" التي تحمل المجموعة اسمها، يقول:

"سقطت جميع الأقنعة.. فلأي رب بعد هذا اليوم تلجأ أي ربّي؟

سيبارك النابالم واللحم الممزق.. لحم شعبي..

منذا يبيعك صك غفران.. ونابك في ذراعي؟

يا من تخاف من الشعاع..

يا من يعز عليك نبض الخصب في أرض الجياع...".

وفي قصيدة “طائر الرعد” تفاؤل وثقة بقدوم طائر الحرية من قلب المأساة، يقول:

"ويكون أن يأتي.. يأتي مع الشمس.. وجه تشوه في غبار مناهج الدرس..

ويكون أن يأتي.. بعد انتحار الريح في صوتي..

شيء ودائعه بلا حد.. شيء يسمى في الأغاني طائر الرعد..

لا بد أن يأتي.. فلقد بلغناها.. بلغنا قمة الموت"».

ويتابع الأديب "البيطار" عن الغربة قائلاً: «أما غربة "يوسف إدريس" فهي الأغرب والأقسى، لأنه استشعر تخلعاً مزمناً وإرثاً من الخنوع فرضته حقب سوداء، حاولت تشويه الثقافة وطمس معالم الشخصية العربية، والمشرقية، ورأى أن محاولة الكاتب إحياء هذه السمات الإنسانية للشخصية المصرية تدخل الكاتب في حقل ألغام، وأي اقتراب من القاع الشعبي والكشف عن كنوز ثقافته أو تشوهات وعيه هي أقرب إلى لائحة اتهام توجه لا إلى السلطات وحدها بل إلى القرن العشرين كله، على حد تعبير جون كينيدي تول في روايته "تحالف الأغبياء"، وفي قصته "الغريب" ما يستحق التأمل والدراسة المتأنية لمعرفة غربة الكاتب القاسية، وهي القصة الأخيرة والأطول في مجموعته "آخر الدنيا"، واللافت فيها أن الغريب "أبا محمد" شخصية قوية الحضور وملهمة، ومزعجة للسلطات، ولكنها غامضة وغير مرئية، وهي مثل الحقيقة قريبة بعيدة، "الشوربجي" زميل الراوي في الدراسة، قص على زميله حكاية الغريب، وعم خليل علمه كتابة القصص، ولم يكتبها، لأن حديثه أجمل حين يقص حكاياته، الغريب أبو محمد، ابن الليل الذي دوّخ المأمور، وكان معروفاً أنه يقتل السجناء كي يوفر على نفسه العناء، ويوفر على السلطة إطعامهم، واختار الغريب أن يكون مختلفاً عن المزاج السائد الخانع، ويواجه السلطة المستقوية المستبدة. ويعلق "الشوربجي" قائلاً: "سيظل هناك أولاد ليل ما دام هناك ليل، منذ الأزل كان الغرباء، وإلى الأبد سيظلون، ومنذ الأزل وأشد العقاب ينزل بهم، ورغم العقاب يعودون يوجدون..."، ويضيف: "ربما لو عرف الناس بعضهم بعضاً معرفة وثيقة، ما جرؤ أحد على قتل أحد، وما خاف أحد من أحد"، الشوربجي المراهق اهتدى إلى مكان الغريب، وطلب منه أن يعلمه القتل، لأنه يريد أن يقتل أحداً، أي أحد، لا لشيء إلا لأن شيئاً مبهماً يدفعه إلى ذلك، والأقدر على تعليمه هو الذي تعجز السلطات عن الإمساك به. وهو مطلوب "بجريمة" قتل المأمور، وبقتل شلبي المؤتمن على أسراره بعد أن اكتشف خيانته، بوجود "الشوربجي"، ونيته لخطف زوجته وردة، ولعل ملازمة "الشوربجي" للغريب لم تعلمه القتل الذي يريده، ولكنها علمته شيئاً آخر، هو الشعور الإنساني المتجذر في المنظومة الأخلاقية الشعبية، والشعور الجمعي بقيمة الإنسان وحقه في الحياة والعمل والابتسام، وحين طلب الشوربجي من الغريب أن يعلمه القتل، وأداته جاهزة في يده، قال له الغريب: "طيب، هيا اقتل أول قادم على الجسر، وإذا لم تفعل قتلتلك، وحين قدم فلاح على دابته يغني في الليل، وأنغام أغنيته لامست قلبي الغريب والفتى، لم يجسر الشوربجي على إطلاق النار، وبعد ابتعاد الفلاح قال الغريب للفتى: لو قتلته لقتلتك، اذهب إلى أهلك فهم أحق بأن تكون قريباً إليهم مني. المعرفة جرح، والقصة خشبة إنقاذ، وغربة الكاتب ستطول وستتناسل ما دامت الكتابة فعل مواجهة، وإضافة جمالية إلى عالم تضيق فيه فسحة الأمل، وقدرة على تحويل المعاناة والألم إلى أمل».

الكاتب والأديب "إسماعيل الملحم" عضو اتحاد الكتاب العرب، بيّن رأيه الثقافي في غربة الأديب قائلاً: «كثر هم الكتاب الذين ملكوا تجربة أدبية غنية، وقد لا تسعف الذاكرة تعدادهم، ولكنهم عانوا ما عانوه من الغربة، لأن الكتابة عمل مواجهة بين طبقات المجتمع والفئات الاجتماعية، عاشوا غربة المكان، وغربة الزمان، وغربة الذات بين سلطة الذات وسلطة الواقع، وظلت سلطة النص تعيش معهم دون مبالاة لشيء، فهم من أكدوا تثبيت الصورة والمتخيل، وهم من رنوا نحو الجمال وجسدوا وحولوا واقعهم المرير إلى أنشودة أمل، واثقين أن أدبهم هو الأمل الباعث في نفوس الناس.

ليس الأهم أن يبتعد الكاتب عن مكانه بل أن يشعر بغربة وهو داخل المكان، لربما كان ذلك متوافراً بين عدد من الكتاب والأدباء من القديم وإلى وقتنا الحالي، مما اختاره الأديب "البيطار" من شخصيات أدبية عاشت الاغتراب والغربة الجغرافية والنفسية والأدبية».