ضمن فعاليات "ملتقى النحت الدولي" المقام في "سيع وتحت عنوان "قليل من الثقافة كثير من الرقابة" قرأ الكاتب والناشر "رياض نجيب الريس" محاضرة في مسرح تربية "السويداء" بتاريخ19/8/2008 جاء فيها: «المشهد الثقافي على امتداد العالم العربي مشهد معقد ومتخلف ومزر. متخلف بأشخاصه ومزر بأدواته ومعقد بأهدافه.

يتميز بانقسام مريع بين المثقفين في علاقاتهم بالناس كنخبة تدعو إلى التنوير والتغيير فهناك من يريد تصفية كاملة مع الماضيين القريب والبعيد، وهناك من يصر على انه لم يتبدل شيء وان مفردات القرن الاول الهجري تبقى صالحة في كل مكان وزمان وتحت هذين الطرحين تسود فوضى هائلة وشرذمة كاملة داخل كل من الاتجاهين المتصارعين.. وأن هناك "علمانية" تمضي إلى حدها الأقصى و"سلفية" تدعو إلى الماضي السحيق دون أدنى اعتراف بأية متغيرات، ومنها متغيرات القرن الحادي والعشرين الداهمة..».

وهنا يكمن التحدي والرهان بين موت مشهد الماضي وولادة مشهد المستقبل

ويضيف "الريس" وسط هذه الوجوه المتعددة للنزاع على الساحة الثقافية أخفقت معالم إيجاد تيار فكري انقاذي تقدمي سياسي عربي قومي، ينهض لمعالجة المشكلات الحقيقية في الواقع العربي الحالي تحت عناوين إيجابية مثل "ديمقراطية العمل السياسي" و"حريات الانسان العربي": «إن ما يجمعنا كامة عربية هو الثقافة والثقافة الآن بعد سقوط كل الأوهام سلاحنا الوحيد وهويتنا الوحيدة. وبانقراض المثقف العربي لن نجد كابحاً آخر لاتقراض الهوية العربية برمتها شعوباً وأرضاً وحضارة، خصوصاً أننا نعيش مناخ بؤس ثقافي عالمي، تطغى عليه الأحقاد وتسود فيه نظرة الغالب للمغلوب».

في هذا "الاستتباع الثقافي" أصبحت الثقافة العربية طريدة العدالة وأضحى الكتاب العربي كرمز وحصيلة للجهد الثقافي العربي الواسع، مادة تستدعي الحظر. وإذا بهذا الكتاب في كل مطار وعند كل مركز حدود في أي بلد عربي، يصنف تصنيف المخدرات، ويعامل ناشره معاملة المهربين ويعاقب مؤلفه عقاب المجرمين ويمنع قارئه منع اللصوص.

وإذا بالوسيلة الاولى للثقافة العربية، تتنقل بين سجون الرقابة الاعلامية والرقابة السياسية والرقابة الدينية، فتصادر الكتب في المعارض ويمنع توزيعها في البلدان ويحرم مؤلفوها وناشروها من الدخول، وتنهار كذبة مئة مليون عربي، عندما لا يتعدى متوسط توزيع الكتاب العربي العادي 3000 نسخة.

ويتهم الكاتب السياسة العربية بتدمير الحياة الثقافية، وتسطيح كل القيم الفنية وتحطيم كل أدوات الإبداع فقد أوحت في أعمالها لا في أقوالها، بأن الثقافة كلمة قذرة يجب وقف تعميمها، والحد من انتشارها وتشجيع التصحر في بنيتها مذكرةً بمقولة "غوبلز" وزير الدعاية في نظام "هتلر" في الثلاثينيات من القرن الماضي: «كل ما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي».

ورأى الكاتب أن، الشرط لنمو الثقافة الحية في أي مجتمع، وجود جماعة معبئة ومحرضة تشارك في الثقافة، وتساهم في نموها وتغييرها وأن المشكلة أولا وأخيراً هي في "ديمقراطية الثقافة". لأنها لا يمكن أن تتم إلاعبر وسائل الاتصال الإعلامي الحرة، وأن حرية هذه الوسائل مرهونة دائماً بشروط ممارسة الحرية داخل كل نظام وسيطرة المصالح السياسية والاقتصادية على ثقافة البلد ومثقفيه.. ويضع "الريس" كل هذا الإحباط برسم وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية التي سيطر عليها "مال النفط العربي" في الثلاثين سنة الاخيرة على الأقل سيطرة كاملة. فاصبح الإعلام العربي أعلاماً أحادياً بمنابره على تعددها، وبكتابه على تنوعهم. وسخر "مال النفط" لتأسيس الدور الصحفية ومحطات الإذاعة والتلفزيون في أوربا والعالم كذلك لشراء الصحافة العربية والصحفيين العرب في كل قطر عربي وأصبح "النفط" رئيس تحرير الصحافة العربية برمتها

والحل في: «الإدراك أن لا ديمقراطية للثقافة إذا لم يعاملها الناس ويستعملوها كجزء نابع من عاداتهم ومن خلقهم ومن هويتهم ومن طقوسهم. لذلك لا يمكن في هذه الصحراء المترامية الاطراف أن يملك المثقفون الاندفاع المرجو لتعميم أفضل معارف عصرهم وأرقى أفكار زمانهم إذا كانت الأرض مجدبة إلى هذا الحد. وإذا كان واقع المشهد الثقافي العربي أسوأ من المشهد السياسي العربي برمته والمثقف العربي لا يملك وسائل الاتصال، ولا يملك أدوات القراءة والكتابة والمناقشة، فلا يمكنه أن يغني الثقافة ويصبح الحديث عن إمكانية مساهمة المثقف في نمو الثقافة ونشرها وتهذيبها حديث جهالة».

يعترف المحاضر بأن: «لدي اسئلة كثيرة ولكن ليس لدي سوى أجوبة قليلة، منها ما يختص بالعلاقة القائمة بين "السياسة" و"الثقافة" التي لا مهرب منها في عالمنا العربي. فالسياسة شأن يومي لكل الناس بينما الثقافة شأن موسمي لبعض الناس. والمشكلة أن الثقافة لا تزاحم السياسة في استحواذ عقول كل الناس. في حين أن الإعلام يلتهم الثقافة، بل يعتبر نفسه بديلاً منها في ما يقدمه لهؤلاء الناس من مادة هي ليست ثقافة أصلاً . لكن التداخل العضوي بين الإعلام والثقافة يجعل من الضروري أن تتوسل الإعلام ليوصلها إلى الجماهير الواسعة».

وسط هذا المشهد الثقافي العربي لا يمكن لأي مثقف إلا أن يطرح هواجس سيطرة السياسة اليومية على كل ما هو ثقافي. فلو تطلعنا إلى الفنون والآداب لوجدنا أن عالمها رمادي حزين وكم ضمرت آفاقها وتقلصت مساحات الإبداع فيها واكتشفنا كذلك مدى تسلط الفكر الواحد على كل أجناس الأدب وأنواع الفنون!

كيف يكون الكاتب داخل الثقافة وخارج الرقابة معاً؟! .. ويجيب بأن دور المثقف هو المواجهة. فالمثقف هو الذي لا يرمي إلى انتزاع السلطة، لكنه يريد منبراً ليسمع السلطة رأيه وينقل إلى الناس فكره. ولأن الوطن العربي باقطاره المتعددة وتجاربه التاريخية المتنوعة، افتقر إلى هذه النوعية في مثقفيه وكتابه، افتقر إلى الثورات التي تتحالف مع التاريخ لتغير مجراه.. فمن الأهمية إلى حد كبير، إجراء حوار بين المثقفين العرب من أجل الوصول لتحديد برنامج يكون بمثابة وثيقة نبدأ بها مسيرة التغيير، مهمتها أن تبني جسوراً مع الأفكار الجادة والجديدة، سواء منها ما يتعلق بتراثنا أو بتجارب وثقافات الشعوب الأخرى فتجعل مقاومتنا لهذا الواقع المتردي ممكنة ومستمرة.

وفي الفصل الأخير تحدث "الريس" عما أسماه (وأد حلم النهضة) وأنه لا يرى بريق تفاءل في مواجهة التحدي المطروح، لأن النخب العربية لم تكن في حال من التخبط والتمزق كما هي عليه اليوم فهي هامشية الصوت فقدت بفعل الهزائم المتكررة كل يقين.. إلا أن الكاتب الذي أبدع في عرض مشكلة الثقافة العربية، نراه، وبشكل غير مقنع، يفصل بين مشكلة المثقفين وبين "جماهير الناس"، مشكلة المثقف تمتد جذورها من حلم النهضة الموءود وصولاً إلى "عاصفة الصحراء" التي سيجت الوطن بالغزاة، فرضي المثقف بالهوان، أما الجماهير الأكثر تماسكاً من المثقف العربي.. فهي في حالة تململ ومخاض لا يقابلها في النخب المثقفة اليوم مفكر أو مبدع يلتقط عناصر الخطاب المستقبلي: «وهنا يكمن التحدي والرهان بين موت مشهد الماضي وولادة مشهد المستقبل».