يعدّ فصل الشتاء موعد استذكار الناس للحكايات والقصص التاريخية المهمة أو الطرائف التي تتصل بحياتهم حينما يجتمعون حول "وجاق النار" أو مدفأة الحطب وهم يأكلون "القرقشاني" في طقوس البرد القاسية.

مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 30 كانون الثاني 2016، التقت "جواد الأطرش" المهتم بجمع التراث الشعبي وصاحب "مضافة" كبرى في مدينة "السويداء"؛ الذي قال عن هذه الأكلة: «منذ قديم الزمان عندما كان الأهل والأجداد يقطنون الجبال ويجلسون حول المدافئ المعتمدة على الحطب أو "الجلي" من بقايا فضلات الأبقار والمواشي، التي كانت النسوة يصنعن منها ما يسمى "طبوع الجلي"، وتستخدم للتدفئة على "بابور" يسمى أيضاً "بابور الجلي" الذي حمل تاريخاً طويلاً مع العائلة الجبلية، وحين تم استخدام "الوجاق" الأكثر تقدماً عن "بابور الجلي" كان وقوده من حطب الأشجار اليابسة، وأغلب الأحيان تكون من الأرض التي يعمل بها الفلاح أو المزارع؛ فإن أفراد المجتمع والعائلة الواحدة أو الأقارب والأصدقاء المقربين، يجتمعون حول "الوجاق"، والسماء تكون في حالة العطاء من المطر والثلج ودرجات الحرارة تكون أغلب الأحيان دون الصفر؛ حيث تبدأ الأحاديث والقصص الاجتماعية التي تتركز عادة حول سيرة الوحوش والضباع».

هذه العادة قد انقرضت خلال الأعوام المنصرمة، وهذا العام عادت من جديد وبقوة بعد أن فرضت عوامل الطبيعة ما فرضته من حاجة إلى العودة إلى الماضي وأدواته، لأن "القرقشاني" لا يمكن أن يكون على مدفأة المازوت بل على "وجاق الحطب" بغية ارتباط الإنسان بالطبيعة وتبادل حالة الارتباط الوثيق بتعبه مع أرضه وزراعته وإنتاجه، وهذا الطقس يمثل حالة اجتماعية مهمة في عادات وتقاليد "جبل العرب"، وقد كانت منتشرة خلال فصل الشتاء في الماضي

وتابع "الأطرش" بالقول: «يتخلل الأحاديث قصص قديمة ووقائع جميلة، الأمر الذي يدفع صاحب المنزل إلى وضع قطع من الخبز على "الوجاق" لتحميصها، ويبدأ الحديث مع "قرقشة الخبز" ولهذا سميت هكذا، وهي الخبز المحمص على "الوجاق"، وتعتبر هذه العادة بما تحمله من وقائع حاملاً لطقوس أدبية وثقافية واجتماعية مهمة في تاريخ "جبل العرب" أثناء فصل الشتاء القارس.

جواد الأطرش

واجتماعياً كل قادم من الخارج وبعد إلقاء التحية والسلام على الحاضرين، يأتي فرحاً وقائلاً: "شو قاعدين تقرقشو"؟ فهذه لمة "القرقشاني" لمة الأهل والأحباب والأصحاب، وين حصتنا"؟، وبالفعل يضطر "المعزب" لجلب الخبز ووضعه على سطح "الوجاق" أو على وجهه وتفوح رائحة الخبز المنعشة. وسمي كذلك من "القرقشة"؛ حيث يصدر صوتاً أثناء تناوله لكونه خبزاً يابساً ومحمصاً، وهي عادة قديمة باتت نادرة هذه الأيام إلا من القلائل الذين يمارسونها، لكن من لديه "الوجاق" ويستخدم التدفئة على الحطب يقوم بتنفيذها، وهي ذات أثر إيجابي بالمجتمع لأنها تحمل في طياتها الجمعة الجميلة الصافية على المحبة وتبادل الآراء والأحاديث والشعر الشعبي وسوالف وقصص قديمة تجشع المرء على الارتباط بذاكرته الشعبية التاريخية».

وبيّن "فهد الأطرش" أحد الزوار بالقول: «كثيراً ما كان رجال المسنين يجلسون في "المضافات" أثناء الثلوج؛ حيث يتبادلون الأحاديث والهموم وهم "يقرقشون" الخبز المحمص، ويضفي هذا الطقس نوعاً من الألفة والمحبة، لأنه لا يستخدم إلا إذا كان الحضور مقربين وجيراناً وتربطهم علاقات متينة وقوية، والأهم أن هذا الطقس له خصوصية في "جبل العرب"؛ حيث لا تمارس هذه العادة في بداية الشتاء على سبيل المثال، بل في قلب فصل الشتاء عندما تكون الثلوج أكثر من نصف متر على الأرض، حيث يذهب الرجال المسنين إلى بعضهم ويتسامرون بالأحاديث الطريفة والتاريخية، ويتخلل معظمها سوالف وقصص وحكايات وشعر شعبي بمعنى سالفة وقصيدة، هذه العادة باتت تمثل حنيناً إلى الماضي وبالعودة هذه الأيام إلى استخدام "الوجاق" مدفأة الحطب عادت من جديد وأصبح لها رونق جميل بأسلوب حديث وطرح مواضيع ثقافية واجتماعية وإنسانية، بمعنى إعادة إحياء الماضي بلغة وأحداث الحاضر».

الشيخ نجم جابر

الشيخ المعمّر "نجم جابر" من قرية "امتان" الذي شارف على حدود قرن من الزمن، أشار إلى جمال هذه العادة بقوله: «هذه العادة قد انقرضت خلال الأعوام المنصرمة، وهذا العام عادت من جديد وبقوة بعد أن فرضت عوامل الطبيعة ما فرضته من حاجة إلى العودة إلى الماضي وأدواته، لأن "القرقشاني" لا يمكن أن يكون على مدفأة المازوت بل على "وجاق الحطب" بغية ارتباط الإنسان بالطبيعة وتبادل حالة الارتباط الوثيق بتعبه مع أرضه وزراعته وإنتاجه، وهذا الطقس يمثل حالة اجتماعية مهمة في عادات وتقاليد "جبل العرب"، وقد كانت منتشرة خلال فصل الشتاء في الماضي».