كان يا ما كان في قديم الزمان: رحالّة إسباني أطلق على نفسه اسم (علي باي) بهره سحر الشرق في القرن الثامن عشر الميلادي، فراح يجوب أصقاعه و يوثّق حياة أهله وعاداتهم وطبائعهم ومزايا مدنهم العمرانيّة،ومن جملة المدن التي زارها دمشق.

أعجبه وفرة مائها وعليل هوائها، وأسواقها وأطعمتها، وأخلاق أهلها وعظمة مبانيها لاسيمّا جامعها الكبير (الجامع الأموي). ولأنّ دمشق هي عاصمة الثقافة العربيّة هذا العام قرر (علي باي) أن يزورها ثانية ويروي لسكّانها اليوم ما شاهده فيها قبل مايزيد على المئتي سنة. مع الرقص والموسيقى في عرضٍ (كرنفالي) لفرقة (إسبارت كتالان – برشلونة) التي جابت أزّقة دمشق القديمة على مدى يومين قبل أن تنتقل إلى مدنٍ سوريّةٍ أخرى (طرطوس واللاذقية). ولكن من يكون (علي باي)؟ هو (دومينغو باديا إي لبليش) ولد في برشلونة في الأول من نيسان عام 1767م، والده كان سكرتير (الكونت دي اوفاليا)، وقد وجه الوالد ابنه منذ صباه إلى الأعمال الإدارية، وفي سن الرابعة عشر تحمل(دومينغو) مسؤوليّة أول عمل رسمي له في شواطئ غرناطة، وتلاه مناصب أخرى تقلّدها في جنوب إسبانيا.

في عام 1794م تزوج وأصبح أباً، إلا أن (دومينغو) بدا غير راضٍ عن حياته وانتابته رغبة الجامحة في التغيير، ولكي نتمكن من فهم سر التحول في شخصيّته والذي جعل منه الرحّالة (علي باي) لا بد لنا من الرجوع إلى الفترة التاريخيّة التي عاشها في أواخر القرن الثامن عشر، ففي ذلك الوقت كانت أوروبا تخطو نحو الحداثة، حيث بدأت الرأسمالية الصناعية بالانتشار لتأخذ معها القيم الغربية وجهاَ آخر، في نفس الوقت انطلق العديد من الرحّالة الأوربيين نحو اتجاهاتٍ عدة يعبّرون عن رغبة أوروبا باكتشاف الآخر. وذلك كلّه وجد انعكاسه لدى ( دومينغو) الذي ما فتئ يجرب كل جديد ويحاول استكشافه. فكان له عدّة محاولات في (عالم المنطاد والطيران)، ونتيجة لهذه الهواية تعرف على الشخص الأهم في حياته وهو(مانويل غودي) الذي كان مقرّباً من الملوك في ذلك الوقت، وعن طريقه تمّت الموافقة على مشروع (دومينغو) بالسفر إلي المغرب العربي تحت اسم (علي باي العباسي) والذي اختار مدينة حلب لينتسب إليها فكان يعّرف بنفسه على أنه أمير عباسي من حلب.

هدف الرحلة كان مصادر جديدة للثروة تحلّ المشاكل الاقتصادية التي كانت تتعرض لها المملكة الإسبانية ، ولكّن (علي باي) لم يسهم إطلاقا في حل هذه المشاكل، بل تنقّل بين مدن الشرق مدينة تلو الأخرى وراح يوُثق لمشاهداته في تلك الرحلات، ومن أهّم الرحلات التي قام بها رحلة الحج إلى مكّة المكرمة وبذلك يكون (علي باي العباسي) أول مسيحي يدخل مكة حاجاَ. وهنا تكمن عظمة شخصيته – بحسب المؤرخين- وقد أرجعوا ذلك إلى مهارته الكبيرة في الحفظ، وطلاقة لسانه في اللغات وقوة ملاحظته وتحليليه لما يدور من حوله، وبذلك يكون ما وثّقه عن الرحلات التي قام بها من أهم المراجع في أوروبا نظرا لدقة المعلومات وشمولية التحليل، ومما يلفت الانتباه في هذه التجربة حب (دومينغو:علي باي) لشخصيته الخيالية التي اخترعها ، فكان يعيش فيها بكل أحاسيسه ، بل كان معجبا بها مما مكنه من إتقانها لدرجة أن الكثير من الشخصيات العلمية والأدبية والسياسية في عصره أعجبت به. وامتد هذا الإعجاب إلي عدد من المؤسسات والهيئات التي أخذت تروج له كرجل وطني كبير . وفي (برشلونة) المدينة التي ينتمي إليها رحالتنا يوجد شارع باسم (علي باي) وليس باسمه الأصلي (دومينغو باديا) وذلك في منطقة الشوارع المسماة بأسماء أبطال وطنين محليين. ولا تزال مذكرات (علي باي) عن رحلاته مادة دسمة لكثير من الباحثين والدارسين وحتى للقارئ العادي، و تم نشرها مرات عديدة وبلغات مختلفة .

نعود إلى أيّام عصرنا الحالي حيث قرّر (علي باي) معاودة زيارة دمشق برفقة صديقيه (مادو) و(الجميلة)، والحكواتي الذي تولّى قراءة مذكراته وقام بدوره (فرانشيسكو خافير فيرناندز)، مع مجموعةٍ من راقصي وموسيقيي فرقة (إسبارت كتالان – برشلونة). ولأنّ خان (أسعد باشا) يعود إلى نفس الفترة التاريخيّة التي زار فيها (علي باي) دمشق وكان في وقتها نُزلاً فخماً للغرباء، انطلقت الفرقة من الخان لتجوب أسواق البزوريّة والصاغة والقباقبيّة وتتوقف في أخر محطّةٍ من جولتها الصباحيّة عند الباب الشرقي للجامع الأموي ليكون مسرحها الأخير المسطبة الكبيرة المطلّة على منطقة النوفرة. و في الجولة المسائية امتدّت عروض الفرقة إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي وحي الكلاًسة و المدرسة الزاهريّة وقلعة دمشق.

(علي باي) لم يكن سوى دُميةٍ ضخمةٍ متطاولة عبرت بصعوبة أزقّة دمشق القديمة الضيقة وسط حشودٍ من سكّان المدينة بدت عليهم الدهشة، وذلك برفقة بقيّة أعضاء الفرقة الذي كانوا يقدمّون الموسيقى والرقص كنموذجٍ لفنون (برشلونة) في القرن الثامن عشر، وبنفس الأزياء والأقنعة والآلات الموسيقيّة التي قدّمها (المتحف الإثني ببرشلونة). و لم يكن للموسيقى أو الرقص أو الكلام أن يبدؤوا إلا بإشارة من (علي باي) بعد أن يستأذنه الحكواتي الذي أدىّ دوره بالعربية (أيهم مجيد آغا)، والحكايات كلّها عن سوق دمشق الكبير الغنّي بأطايب الطعام، لاسيّما الخبز الذي لم يشهد (علي باي) له مثيلاً في أوربا، وتلّة الحلوى الكبيرة-أكبر تلّة حلوى في العالم- شاهدها في سوق البزوريّة، أما الجامع الأموي فقد بهره بهوه الكبير وأعمدته المربّعة التي تنتظم أربعةً وأربعين عموداً في كل صف، وأقواسه وبحرته الكبيرة المجاورة لبيت المال، ومجالس العلم التي لا تنقطع في الجامع.. المياه عذبة في دمشق ويرويها نهرين صافيين ، وفي كلّ بيت توجد نوفرة ليشرب منها أهل البيت و(يبوردو..)

عودة (علي باي) تجربة ناضجة لعروض مسرح الشارع التي قلّ ما نشاهدها في دمشق باستثناء العراضة الشاميّة كعرضٍ يرتكز على الموروث الشعبي. العرض من إخراج (سامر اليماني)، وتقديم فرقة (إسبارت كتالان – برشلونة) وهي فرقة لمسرح الشارع تحتفل هذا العام بالعيد المائة لتأسيسها، والحدث برعاية : محافظة برشلونة، والمتحف الإثني بالمدينة، و تنظيم الأمانة العامّة لاحتفاليّة دمشق عاصمة الثقافة العربيّة 2008.

اليماني حدّثنا عن الفكّرة: "كان هدفنا أن نقيم عرضاً مسرحياً مستوحى من قصّة (علي باي)، ورحلاته إلى المدن السوريّة كرابط ثقافي بيننا وبين (برشلونة) ضمن برنامج عام حوار الحضارات2008 الذي تحتفل فيه أوربا، ولأنّ دمشق عاصمة الثقافة العربية هذا العام أرادت المملكة الإسبانيّة أن تكون ممثّلة في هذا الحدث من خلال إحدى الفرق الفنّية. طرحت الفكرة على محافظة (برشلونة ) ولقيت منها الدعم اللازم وكذلك الأمر بالنسبة للأمانة العامة لاحتفالية دمشق. ولأنّ قصة العرض المسرحي عن زيارة (علي باي) إلى دمشق و كيف شاهدها قبل مايزيد على المئتي عام، قررنا أنّ المكان الأنسب للعرض هو الشارع حيث ستجوب الفرقة في نفس الأماكن التي زارها، والتي مازالت تحتفظ بنفس ملامحها على الغالب، بالتالي لا داعي لأن يكون العرض في مسرح مغلق يتطلب بناء ديكورات مازالت موجودة على أرض الواقع، هنا قررت الاستعانة بفرقة تقيم هذا النوع من العروض منذ مائة عام، واعتمدت على الرقص والموسيقى للفت الانتباه إلى الحكاية التي تمّثل غاية العرض الرئيسية، دون أن يكون ذلك زائداً عن الحد لأنّ هدف المسرحية بشكلٍ أساسي أن نحكي للدمشقيين اليوم كيف رأى رحالة إسباني مدينتهم قبل قرنين من الزمان و كيف وصفها، الموسيقى التي عزفت في العرض والرقصات المؤداة تعود إلى نفس الفترة التي زار بها (علي باي) دمشق، وبذلك نكون قد حققنا هدفين سرد الحكايات وإطلاع الجمهور السوري على ملامح من تراث مدينة (برشلونة)، وهذا الهدف هو جزء من برنامج (المتحف الإثني) بالمدينة لإحياء التراث الإسباني غير المادي ونشره خارج إسبانيا، ولأنّ خان (أسعد باشا) اعتبر من أشهر فنادق دمشق وأفخمها في تلك الفترة قررنا أن تنطلق قافلة(إسبارت كتالان) منه وتعود إليه".

من الجدير بالذكر أن سامر اليماني من مواليد (سان بيدرو سولا)-هندوراس- وهو سوري الأصل- تخرج من مدرسة الفن – مدريد- مدير مجموعة FFDS للمشاريع الثقافية – برشلونة- مؤسس حركة MUD- ART.net، أقام العديد من المعارض الفنية المحلية والعالمية لمشاريع ثقافية مختلفة :(مسرح - أفلام وثائقية - معارض صور) في كل من سورية، إسبانيا، إيطاليا، فرنسا.

من أعماله في سورية: تصميم وإخراج مؤتمر العمارة العربية- دمشق 2006- معرض و مسرحية (علي باي) – حلب- معرض و فيلم الحديقة الأندلسية-حلب- معرض و كتاب حلب حضارة وعمارة –كتاب تصوير للمصور العالمي (ميكال أرنال) – حلب-إصدار كتاب حلب تاريخ الحضارة.