قطعت العنزة التي كان يملكها المجاهد "محمود محيو" مسافات طويلة من "اللوا" في اقصى شمال "السويداء" الى "الازرق" ومنها الى "وادي السرحان" (شمال شرق الأردن امتداداً إلى أراضي السعودية)، وبقيت على قيد الحياة رغم العطش والجوع الذي قضى على كل الحيوانات المنزلية المرافقة للثوار في رحلة المنفى القسري آنذاك.

إذ حين اشتدت الأزمات على الثوار من خلال الحصار والملاحقات، كان المفر الوحيد لهم هو المنفى، وكان الثوار يحملون معهم كل ما خف حمله وله حاجة به، ومنهم من أخذ حيواناته معه لكي يستطيع العيش أو التنقل في صحراء لا يعرفون فيها مخرجاً أو بارقة أمل، وبعدها استقر بهم الحال في "النبك" التي تقع في "وادي السرحان"، بعد ان توسط الامير "عادل ارسلان" مع الامير "عبد العزيز" لكي تكون هذه المنطقة الجرداء مقراً مؤقتاً لحوالي ألف ومئتي شخص بينهم اطفال صغار ونساء وشيوخ.

بلاد جرداء لا يوجد فيها عرق اخضر غير الشيح والقيصوم والاشنيات، والجوع الذي فتك بكل الصغار من عمر يوم الى خمسة اعوام كان كالكابوس الذي يقض مضجع سكان تلك المنطقة.

كان الامير "عادل ارسلان" مصاباً بمرض القرحة المعدية وبحاجة الى الحليب، فذهب الى صاحب العنزة "محمود محيو" وطلب منه حليبها من اجل مرضه مقابل بندقيته، فوافق على الأمر دون مقابل وحباً وكرامة، إذا كان في حليبها شفاءً للامير الثائر.

في تلك الاثناء كانت الولادات الجديدة معرضة للموت المحتوم، والسواد يلف الامهات، فعلى قلة الطعام لا يدر الحليب في الصدور.

إحدى السيدات التي انجبت بنتا ذهبت في اليوم الثالث لولادتها إلى الأمير عادل وطلبت منه حليب العنزة الوحيدة لصغيرتها حتى تقوى على الحياة، فهي لا تستطيع اطعامها لأن الحليب غار من صدرها.

وكالمسلّم بقضاء الله وقدره طلب الامير من المسؤول عن العنزة ان يعطي السيدة الحليب الذي انقذ حياة طفلة بريئة من براثن الموت.

نهاية العنزة

كان بين الفينة والأخرى يقوم زوار من الاردن والسعودية وفلسطين بزيارة المنفيين هناك والشد على ايديهم، وفي يوم قام "صبحي الخريشة" وعدد من امراء البلقاء بزيارة "سلطان باشا الاطرش"، وعندما سمع الامير عادل بوصولهم دعا عددا من اصحابه وذهب للسلام على الضيوف، فلما وصل المكان لم يجد اي رائحة للطعام ولا نارا موقدة، ولاحظ ان قائد الثورة في حيرة من امره فبعث وراء احد المقربين من القائد وسأله: ماذا قدمتم للضيوف؟ فاعلمه انه لا يوجد شيء يقدم لهم، وعلى الفور استدعى مرافقه وقالله: اذهب واذبح العنزة وجهزوا الغداء للضيوف.

وبعد فترة قصيرة قال لهم: ايها السادة ان الباشا مشغول بمرض اخيه، واتمنى ان تشرفوني على الغداء.

وهكذا كانت نهاية العنزة التي انقذت العديد من الناس وسترت وجه قادة الثورة في احلك الظروف والمواقف، وسوف تبقى قصتها ماثلة للعيان طويلا لأنها ترمز الى فترة امتدت الى ما يقرب من عشرة اعوام بين عام 1927 الى اواخر عام 1936.

وعن المنفى والجوع في وادي السرحان، وصمود الأبطال فيه، يقول الامير عادل ارسلان في قصيدة طويلة نقطتف منها بعض الابيات:

طال انتظاري للنهار الصبيح/ ماذا على الجفان لو تستريح

روعة الصحراء في خاطري/ يدور عنها كل معنى صريح

كأنها والليل يزهو بها/ ازرار ماس ركبت في مسوح

يجوح في مهمهٍ قفرٍ كأن/ السما لم تروه من عهد نوح

يجوح فيه الذئب مسترحماً/ وارحمتا للذئب فيما يجوح

كل رغيف حوله تسعة/ كأنما صلى عليه المسيح

قد حسبوا الوادي لنا مدفناً/ وكل بيت يحتويه ضريح.