لم يكن لعيد الجلاء أن يمر هذا العام دون أن يترك نسائم الود والبهجة تهب على أرض بلدنا سورية ودون أن يجعل من هذا اليوم عيداً وعرساً وطنياً، بل جعل السابع عشر من نيسان يحمل بين أزاهيره نكهة الماضي العريق والحاضر الوثيق وذلك بتعانق الشخصيات التاريخية مع بعضها بعضاً...

فعاد بذاكرة الوطن إلى الوراء وعاش لحظات عاطفية إنسانية وجدانية حاملاً عبق التاريخ الأمين لسورية التاريخ والحضارة، التي قدمت للشعوب العربية دروساً في التكاتف والتعاضد ضد أعداء الوطن، بفكر أبنائها وسيوف أبطالها وصلاة شيوخها وزغاريد نسائها وأهازيج أطفالها عبر مسيرتها التاريخية.

اندفع البطل يوسف العظمة إلى ميسلون ورفض دخول الجيش الفرنسي إلا على جسده الطاهر, ورافق الشيخ صالح العلي إبراهيم هنانو وحسن الخراط وأحمد مريود ومحمد الحريري وفارس الخوري وفخري البارودي ونسيب البكري وو... وتكاد القائمة لا تنتهي من الثوار الميامين، ليصافح بعضهم بعضاً في قرية ريمة اللحف، وفي منزل السيد شاهين محمد أبو فخر، في 23 آب 1925 وصل وفد ثوار دمشق وهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، نزيه المؤيد العظم، سعد الدين المؤيد العظم، ياسين الحكيم، عبد القادر القواص، إبراهيم صدقي، جميل البيك، حسن الحكيم.

المضيف رجا الطويل

وفد لبنان في مقدمتهم الأمير عادل حمود أرسلان، ورشيد بيك طليع، والعقيد فؤاد سليم.

وكذلك جميل مردم، وشكري القوتلي، عثمان الشرباتي، يحيى حياتي، سعيد العاص، الدكتور خالد الخطيب، منير الريس، جمعة سوسق، توفيق حيدر، نسيب البكري، طراف ميمون، محمد الأشمر، عز الدين الجزائري، وغيرهم من القادة.

لوحة وطن

ويقول السيد ضامن مراد: عقد المؤتمر حيث تجلت فيه الوحدة الوطنية بأوضح معانيها، عناصر من سورية ولبنان، وانصرفت الجهود خلال جلساته لوضع قواعد هامة للتعاون بين جميع العناصر الوطنية في سورية ولبنان لتقوية دعائم الثورة، وتوسيع نطاقها وإيجاد الوسائل لتمويلها وتأمين السلاح لها، كما رسمت الخطوط الرئيسية لنظام جهازها القيادي وإدارتها السياسية والعسكرية، وأنهى المؤتمر أعماله بإعلان القرارات التالية:

1- متابعة الثورة حتى تنال البلاد استقلالها العام.

د. أحمد الهويس

2- تسمية سلطان الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى لتأخذ الثورة هذا الشمول فيما بعد، وتشكل إحراجاً حقيقياً لفرنسا من خلال الهجمات المتكررة عليها والهزائم المتتابعة في صفوف جيوشها، دمشق وغوطتها، مواقع الخيارة، قطنا، قلعة جندل، مجدل شمس، حاصبيا، راشيا وقلعتها، وقد أحرقوها ورفعوا العلم العربي فوقها، معارك الإقليم الشهيرة.

وقرر المجتمعون إشعال الثورة في باقي سورية على أن يظل الجبل مركزاً للقيادة.

ثورة شاملة وصلت لبنان وفلسطين لتأخذ هذا الطابع الشمولي الوطني.

3- تولية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر إدارة الشؤون السياسية للثورة وتسميته ناطقاً رسمياً لها (المدير السياسي الناطق الرسمي).

لتدور الرحى على المعتدي بصوت واحد أجش من رأس العين في الحسكة إلى عين الزمان في السويداء: إلى السلاح إلى السلاح إلى السلاح ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة، وشعارهم الموحد: الدين لله والوطن للجميع.

وبعد أن مضى الفرنسي مهزوماً عائداً بالخيبة ليعيش الوطن الجلاء في السابع عشر من نيسان، تدور دائرة الزمن ليجتمع القادة (الأحفاد) في السويداء مرة أخرى ولكن ليس في ريمة اللحف هذه المرة بل في شهبا فيليب العربي، ليرسل القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش إلى أخيه ورفيق دربه النضالي المجاهد الشيخ صالح العلي رسالته بلسان أحد أبنائه وهو الشاعر والأديب فرحان الخطيب موصلاً رسالته قائلاً:

صباحُ النّدى من ربىً عاطرةْ/ إلـى دوحـة بالعـلا زاخرة

صباح السـويداء يهمي هنـا/ على صـالحٍ أنجمـاً زاهرة

ومن أطرشٍ قد حملتُ السلام/ سـلاماً إلى روحِكَ الطاهرة

أتينـا كأنْ شـوقنـا قادنـا/ كنسرٍ..على مهرةٍ ضامـرة

هنا يـا العلي النساء ارتدت/ وشاحاً من النصر في الذاكرة

هنا مطلع الشمس منذ الأزل/ ويبقـى إلى آخـر الآخـرة...

أما المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي فأرسل له أحفاده موصياً لهم أن يزوروا ضريح سلطان ويقرؤوا الفاتحة على روحه الطاهرة ويقرئونه العهد بأنهم عليه باقون بتشابك الأيدي والقلوب إلى ما شاء الله، فيقف أحد أحفاد المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي الشاعر أحمد محمود حسن مع رفاقه وإخوته وبين أهله في جبل العرب وبعد أن أدى ما جاء بوصية جده مع الوفد المرافق بأمانة ووفاء وقف في شهبا وقال: أنا ورفاقي أبناء قرية المجاهد الشيخ صالح العلي، وأنا جار بيته، وقد علم بأنني قادمٌ إليكم فحملني رسالة منه إلى أخيه وتوءمه في الجهاد المجاهد الكبير والقائد العام للثورة السورية الكبرى المغفور له سلطان باشا الأطرش لأقول:

رسولُ صالح ريش النسر من زغبي/ محلقاً جئت فوق النجم والسحب

بسـطت جانح حبي فوق أرضكم/ فما رأيت سوى اللألاء والقشب

فـرحت أهطل قمحاً في مواسـمكم/ من حقل صالح بل من حبه العجب

دعوتمونـي فأعطانـي رسـالتـه/ وقال: سـلم عليهم إخوة الأدبِ

وإن نزلـت بسـلطانٍ فبـث لـه/ محبتي وادعه للسيف عن كثـبِ

لم ينتـه مـا بدأنـاه وفـي وطني/ شـبرٌ تـدنسـه أقـدامُ مغتصبِ

قل للسـويداء، ما زلنا على صلـةٍ/ فمثلكِ الشـيخُ بدرٍ بيتُ كلِّ أبـي

بلـغ بني يعربٍ: أنـا نثور غداً/ إن لم يعيدوا تراب القدس والنقب

بلـغ بني أمتي: تبت أيادي سـبا/ وبورك الجمع أعواداً من القصب

سلطان فانظر إلى هذي الجموع أتت/ كـرمى لعينيكَ في أثوابها القشب

ذا يوم عرسك فانظر ما تقول لهـا/ وألف لبيـك قالـت ساعة الطلب

كي تطمئن عليهـا قـم تر بـلداً/ محجةً صـار للإسـلام والعرب

أحفـاد مجـدك مـا ذلوا لطاغيةٍ/ أو أذعنوا أو عنوا وجهاً لمغتصب...

بهذه الكلمات كان تبادل الحب والود بين المجاهدين الكبيرين الشيخ صالح العلي والمجاهد سلطان باشا الأطرش هذا العام، إلا أن مجاهدي حلب وحمص وحماة وإدلب ودرعا والقنيطرة ودير الزور والرقة والحسكة حملوا معهم أوسمة البطولة والفداء من مجاهديهم إلى معقل القائد العام للثورة السورية الكبرى وفوق ضريحه في قرية القريا.

أما ابن صافيتا البار الشاعر والأديب غانم بو حمود فقد رحب بالجميع على طريقته في شهبا العروبة وكأنه ابن البيت قائلاً:

شهباء يـا عرابـة التاريخ/ ويا حفيدة ربات المطر

خضعت لتاجيك ملوك روم/ وشتّتت بيديك ألوية التتر

وقالوا بخطابات وأشعار جميلة ورائعة ناقلين صورة الزمن الماضي ومعاصرة الحاضر بلوحة وطنية يكاد الغرب تتمزق أحشاؤه من رؤيتها، ليبرهنوا للعالم أجمع أن سورية منذ القدم هي من أرست دعائم اللحمة الوطنية وطرزت بدماء أبنائها اللوحة الوطنية ونحرت أعداءها بسيفها الوطني الممتشق بيد ثوراها وأحرارها.

لكن الأخ المضياف رجا الطويل عندما قدّم وليمته للضيوف القادمين من المحافظات السورية إلى بلدته شهباء قال:

(لقد تعانقت شهبا الشمال -مدينة حلب الشهباء- مع شهباء الجنوب مدينة شهبا، وسهول الجزيرة مع سهول حوران وجبال الزاوية والساحل مع جبل العرب، وما يختلج في صدري أنني عندما زرت طرطوس وقرية الشيخ بدر وحلب وحماة والمحافظات جمعيها لم أر حدوداً تفصل بين السويداء وبينها لذا لا أريد أن أقول لكم أهلاً بالضيوف الأكارم فحسب، بل أقول أهلاً بأصحاب البيوت فأنتم أصحاب بيوت في جبل العرب).

وأبى إلا أن يقدم الدكتور أحمد هويس من حلب ليسكب السمن على المنسف العربي، ومن المعروف أن من يسكب السمن هو صاحب الوليمة، لكن رجا الطويل وأمثاله من الوطنيين جعلوا بيوتهم منارة وطنية، فأمسك بالكبشة لكل ضيف من المحافظات السورية وسكب الضيف بنفسه على المنسف السمن العربي وبدأ بالترحيب بالجميع ويقولون تفضلوا إلى الطعام، وبالفعل كان الجلاء هذا العام عيد المحبة والوئام عيد تبادل الحب بالحب والود بالود والكرم بالكرم.

أخيراً إن أبناء الوطن من شماله إلى جنوبه قد تبادلوا تحية الجلاء وكان هذا العيد مكرمة من مكرمات الوفاء ووسيلة للدعاء للذي سيحقق الجلاء الأكبر السيد الرئيس بشار الأسد، لأنه الأمل الواعد والقلب الصامد والمؤمن المجاهد والواثق المعاهد للحق والشعب، وأنه على خطا الأبطال والمجاهدين يسير، فقد زرع القائد الخالد حافظ الأسد نصر تشرين بإيمان واقتدار، والدكتور بشار الأسد مؤمن أن المقاومة لا بد لها أن تنجح عاجلاً أم آجلاً في تحقيق النصر وقد برهنت إرادة المقاومة الوطنية في لبنان الشقيق ذلك حين لقنت العدو الصهيوني درساً في تموز سيذكره التاريخ المعاصر والآتي، لذا فهو على يقين أنه سوف يرفع العلم السوري فوق ربا الجولان المحتل، وأن المحتل سيزول والنصر آت ،آت ،آت، إن شاء الله.