القهوة المرة هذا المشروب الذي يعتبر الأهم في الضيافة العربية ترى ما أساسه؟ ومن أين جاء تقليده الذي ورثناه؟ سؤال طرحناه على بعض الباحثين والمهتمين وخاصة في مضافات جبل العرب التي تعتبر القهوة ليست مشروبا فحسب بل مكوناً اساسياً من مكوناتها.

الاستاذ فيصل نفاع رئيس جمعية الادب الشعبي بالسويداء حدثنا بقوله:

أولاً- لم يعرف العرب في جاهليتهم أو خلال العهدين الأموي والعباسي مشروب القهوة حيث إننا لم نعثر فيما ورثناه من آدابهم وشعرهم على نصوص تتحدث عن وجودها وانتشارها. ونعتقد أن القهوة قد وصلت إلينا في العصور الحديثة، وأولها عصر الاكتشافات الجغرافية التي نشطت في القرن الخامس عشر الميلادي، ويظهر أن التجار العرب عرفوها في الهند وسيلان.

واكتسبت تسميتها باسم موطنها فقيل "قهوة عدنية أو يمنية أو سيلانية" وأخيراً شاعت زراعتها في البرازيل وكولومبيا.

وكادت تنشأ مع انتشار القهوة مشكلة اجتماعية فقهية ما اقتضى آنذاك إصدار فتوى شرعية بقبولها، هذا ما حدث حينما تعرف العثمانيون إلى القهوة في أوائل القرن السادس عشر، فقد بدأ السلاطين بإصدار الأوامر بتحريمها بين عامي /1511-1546/ وذلك لظنهم أنها من جنس الخمرة بسبب الإقبال عليها وانتشارها سرياً، ويقال إن أحد الشيوخ دخل على شبان وقد جلسوا حول مصباح مضاء وهم يشربون شراباً ولمّا أحسوا بقدوم الشيخ أطفؤوا المصباح وخبؤوا الشراب فألحّ الشيخ عليهم ليعرف ما يشربون فأبرزوا له إبريق القهوة المرة وقد خافوا الشيخ لاعتقادهم أنها مسكرة، فيمنعهم من تعاطيها، فَبُحِثَ موضوع تحريم القهوة وخلصوا إلى نتيجة هي: إباحة القهوة لانتفاء المسكر منها وهذا موجود في كتاب (العادات والتقاليد في جبل العرب).

  • أما عن القهوة لغوياً فتابع قائلاً: القهوة لغةً هي اللبن، وهو الشراب التقليدي الذي بدأ البدوي بتقديمه لضيوفه، ثم دخلت الخمرة في الاستعمال، فأطلق عليها اسم القهوة لأنها تقهي أي تقلل الشهية للطعام، ثم صُرفَ المعنى إلى مغلي القهوة بعد تحميصها ودقها حتى تسحق، كما أُطلق اسم القهوة على مكان تقديمها وشربها. وهذا ايضا موجود في كتاب (العادات والتقاليد في جبل العرب) للشاعر المرحوم عطا الله الزاقوت.

  • اما عن تاريخ القهوة واستعمالها في الجبل فسألنا الشاعر الشعبي أبو نضال جاد الكريم نفاع /74 سنة/ قال: نعرف جميعاً أنه من مستلزمات المضافة الأولية في جبل العرب والأكثر أهمية تقديم مشروب القهوة المرة للضيوف الذين يأتون دون سابق إخبار، فالضيوف يأتون ساعة يشاؤون فلذا يجب أن تكون القهوة المرة جاهزة دوماً، فهي عنوان الكرم والكرامة عند أهل الجبل.

  • فعندما يأتي الزائر إلى المضافة فعليه أولاً أن ينبه لوجوده قبل الدخول كأن يقول: /وين راحو المعازيب/ فيجيب أصحاب الدار طلبه بقولهم: /أهلاً وسهلاً، حياك الله، تفضل يا ضيف/.

  • قبل هذا يكون صاحب المضافة وفي كل صباحٍ باكر قد افتتح أعماله بإعداد القهوة فيعمّرها دائماً ويدعو إليه الضيوف لتبقى قهوته عامرة.
  • وحول مسألة تعمير القهوة سألناهُ، فأجاب:

    يحق تعمير القهوة عند أهل الجبل لكبير السن: أولاً لتفرغه لعمل القهوة، ثانياً لخبرته الطويلة بصناعتها، ثالثاً لأن القهوة لا تقبل أي متدخل عليها وتعتمد على النظافة الكاملة. ويروي لنا حكاية قديمة تبيّن شيئاً من تقاليد إعداد القهوة: "يقال إن امرأة ذكية، نبيهة العقل، دخلت على أحد الشيوخ فسـكب لها فنجان القهوة وعندما تذوقتها قالت له: القهوة ملموسة (أي يداً لمستها)، ثم سكب لها الشيخ فنجاناً آخر، وقال لها: ما رأيك؟ قالت: القهوة منفوسة (بمعنى أن العبد الذي سكب القهوة نفخ عليها وهذا لا يجوز)، احتار الشيخ في أمرها وقال للعبد: أضف إلى القهوة قليلاً من الشعير لنرى، ولا تلمسها ولا تنفخ عليها، فقدمها للمرأة وقال لها: ما رأيك؟ قالت له: لذيذة حتى ولو كان فيها شعير".

    إن هذه المقدمة للتعّريف بأن القهوة يجب ألا تلمس ويجب أن تستخدم في إعدادها أدوات خاصة هي:

  • "المجربة" أو "الجراب": وهو الكيس الذي تحفظ فيه حبات القهوة النيئة.

  • المحماسة: وهي صحن سميك من الحديد الأسود له ساعد بطول/50إلى 60 سم/ ويتبعها يد المحماسة على شكل ملعقة كبيرة تقلب بواسطتها حبات القهوة عند التحميص.

  • المبردة: وهي وعاء خشبي سميك تسكب فيها القهوة عند التحميص لتبرد.

  • النجر أو الجرن: وهو مصنوع من جذع شجرة البطم، مجّوف من الداخل ومزخرف من الخارج توضع فيه القهوة المحمصة لدقها بواسطة عصا المهباج وهي عصا غليظة بطول الذراع تقريباً، فقد كانوا قديماً يستخدمونها لطحن البن استخداماً جعلهم يتفننون فيه ليَصدرَ بلحنٍ إيقاعيٍ موسيقيٍ جميل.

  • أما الأباريق اللازمة لعمل القهوة فتصنع من النحاس وهي: دلّة لحفظ الخمير، وإبريق تطبخ فيه القهوة ثم إبريق التصفية، وأخيراً الغلاية أو المغلاة، وهذه تصب منها القهوة للضيوف بفناجين من الخزف. أمّا التهييل: فهو مسحوق حب الهال لمغلي القهوة المخمرة أثناء غلي الماء بمسحوق القهوة.

    لقد قال كثيرٌ من الشعراء بالقهوة قصائد ومنهم: الشاعر الشعبي جاد الكريم نفّاع:

  • بنت العدن كل البوادي تجله
  • سمرة دريرة قدرها يرفع الشان

  • مطغوثةً بالهال يشهاك زلّه
  • معنبر شذاها يدعي للفكر نشوان

  • يصحى خوي الراس من فوح دلّه
  • ويشفى ظني الياس لو شف فنجان

    وينشد الشاعر أبو فيصل غازي أبو طافش:

    ولِـّم ليّ فنجان بنٍ مع الهيل

    وسوقه على معذيين الطوايف

    فنجان صافي يعدل الكيف والميل

    يصبغ كعندم فوق بيض الصحايف

    ويتابع الشاعر الشعبي غازي أبو طافش قائلاً:

    لقد كانت القهوة قديماً ثواباً وعقاباً، لعدم وجود حكومات، فمن كان يقوم بعمل بارز كانوا يكرمونهُ بشرب القهوة، أما الذي كان يقوم بعمل سيئ فيحرمونهُ شرب القهوة ((بسكب الفنجان له وعندما يصل إليه يُسكبْ أمامه)).

    واستخدمت القهوة لبعث الشجاعة والحماسة في نفوس الرجال.

    وعلى ساقي القهوة واجبات وكذلك على شارب فنجان القهوة، وعنها حدثنا الشاعر جاد الكريم نفاع بقوله:

    1- على الساقي أن يشرب الفنجان الأول قبل تقديمه للزائرين.

    2- على الساقي أن يقف أمام الزائر ويصب له الفنجان بعد نقرة على حافته بمنقار الغلاية قبل وبعد الصب تهيأً له لأخذ الفنجان، ولا يجوز تقديم القهوة من الساقي وهو جالس، إلاّ إذا رفع التكليف بينهما كصديقين أو قريبين، ويقدمه باليد اليمنى.

    3- على الساقي أن يكرر صب القهوة مرتين للشارب إلى أن يعلن الشارب عن اكتفائه بالعبارة أو بالإشارة وتكون عادةً بهز الفنجان بعد شربه.

    4- يبدأ الساقي بصب القهوة للزوار بدءاً من أحدهم الذي اختصّه بالفنجان الأول نظراً لبعد ديرته، أو لكبر سنّه، أو احتراماً لمكانته، ثم يتابع بعدها تقديم القهوة من اليمين إلى اليسار دون تمييز بين الشاربين وقاعدتها /أول القهوة خص ثم قص/.

    5- لا يجوز إرسال الفنجان للشارب بوساطة أحد، إلاّ إذا كان الساقي عاجزاً عن النهوض أو الحركة أو عند قبول العذر وارتفاع المجاملة بينهما، ولا يجوز غسل الفنجان بعد شربه مباشرةً لمظنة السوء من الشارب.

    6- لا يجوز أن يكون الفنجان مملوءاً.

    7- نظافة المعاميل وحسن ترتيبها دليل على عراقة المضافة وصاحبها.

    - أما واجبات الشارب:

    1- يجب على الشارب أن يعتدل في جلسته عند تقديم القهوة له.

    2- أن يتناول الفنجان بيمينه إن قدم له باليمين وله الخيار.

    3- لا يجوز للشارب إعلان رأيه في القهوة مدحاً أو ذماً.

    4- هز الفنجان إشارة لاكتفاء الشارب.

    5- لا يجوز الامتناع عن شرب القهوة إلاّ بعذر صحي أو اعتذار.

    6- لا يجوز مسح حافة الفنجان بعد الشرب من قبل شاربه.

    7- إذا تناول الشارب الفنجان ووضعه أمامه دون أن يشربه، فذلك يعني أنه يطلب من أصحاب المضافة طلباً عزيزاً وكأنه يشترط ألاّ يشرب الفنجان قبل إجابة طلبه.

    8- لا يجوز شرب الماء بعد الفنجان مباشرةً وإلاّ اعتبر ذلك عدم رضى من القهوة.

  • أما ما طرأ على عادة شرب القهوة المّرة هذه الأيام فنوجزه بما يلي:
  • بدأت شمس القهوة تغيب عن المدينة ليحل محلها القهوة الحلوة وتقاليدها، وتغيب القهوة المرة في بوادينا وريفنا، مع بعض الاستثناءات حيث ما زالت القهوة تقدّم في مضافات وبيوت عدد غير قليل من أهل الجبل، وقد غابت معانيها عن أذهان الجيل الجديد، وربما كان هذا المقال لهذا التقليد الذي سوف يحمل يوماً على الرفوف المنسية للحضارة السابقة، كما غاب من صنعوا القهوة وتفننوا وتفاخروا بها يوماً.

    لقد خضعت عادة شرب القهوة كغيرها لحكم الزمان فتغيرت أدواتها وشكل صنعها، فحلت المطحنة الكهربائية بدل الجرن والمهباج، وإبريق الضغط بدل المعاميل، والترمس (البراد) بدل الغلاية، والطاولة الأنيقة بدل منقل الفحم.

    الشاعر محمد شجاع من قرية الرشيدة قال لنا عن القهوة عندما سألناه أبيات الشعر التالية:

    يا واصفين البن وصف المحبين من الشوق للمحبوب كل المعاني

    البن ما هو بس كيف وتهجين البن سر الجود من دور هاني

    ملفى النشامى من عاليات الدواوين ومشروب أهلنا من قديم الزمانِ

    معزب الرحمن يسكب فناجين ويبشّر الجيران ضيف لفاني.