تشكل عادة العزاء أنموذجاً من العادات الاجتماعية القديمة الحاملة عبارات وجملاً عديدة، تعمل على تخفيف حدة الحدث وتأثيره النفسي والشعوري، وحمل تكاليف مادية باهظة عند أصحاب العزاء في الماضي، وتتطور اليوم لتتقلص أيامها من الأربعين يوماً إلى يوم واحد.

مقال مهم:

الملخص:تشكل عادة العزاء أنموذجاً من العادات الاجتماعية القديمة الحاملة عبارات وجملاً عديدة، تعمل على تخفيف حدة الحدث وتأثيره النفسي والشعوري، وحمل تكاليف مادية باهظة عند أصحاب العزاء في الماضي، وتتطور اليوم لتتقلص أيامها من الأربعين يوماً إلى يوم واحد.

تعدّ تلك عادة من العادات التاريخية والاجتماعية القديمة في "جبل العرب"، والتي تميزت بطقوسها وشعائرها؛ بحيث حملت في مضامينها خصوصية البيئة المحلية الناجمة عن ثقافة جمعية تم اعتمادها من مئات السنين، والتي تنحصر في تقديم العزاء أمام جمع غفير من المشاركين وفي موقف عام مخصص لذلك، ويتخلله عبارات يطلقها المعزون، وهي ذات دلالة في التعبير عن الحس الوجداني والمشاركة الصادقة، وتساهم في تخفيف مشاعر الحزن والفراق والألم على الميت. وقال فضيلة الشيخ "حمزة حمزة" إمام قرية "رساس" لموقع مدونة وطن "esyria": "حملتْ عادةُ العزاء عبارات وطرقاً في الأداء وأسلوباً وهي تتماهى مع حدث الموت بعبارات دينية فيها التسليم لقضاء الله وقدره ومواساة المصاب بشكل وجداني، بحيث تطورت عادة العزاء رغم صعوبة العمل على تعديلها لحاجتها لإجماع مجتمعي. وهذا ما أكده "ابن الجوزي" حينما قال: "ليس أشد على دعاة إصلاح من عادة تأصلت على أصحابهم، فأصبحت لهم سنة متبعة" وبالتالي تحولت العادة إلى سنة يصعب العمل على تشذيبها وفق متطلبات العصر والحياة، رغم ما تحمله من قيمة معنوية، كأن يقف المرء إما منفرداً أو مع مجموعة من الأصدقاء أو الأقارب والجيران في المسكن أمام أهل العزاء الذي يتجاوز عددهم في الغالب نحو مئتين ويصل الحضور أو المشاركين إلى ألف شخص وربما أكثر حسب النعوة. وبالتالي يتم ترديد العبارات بين المعزّي وصاحب العزاء، فيقول المعزّي "الله يعظّم أجركم"، فيرد عليه أهل العزاء: "أجركم عند الله عظيم"، ثم يردد "إن شاء الله بسلامة عمركم"، والرد يكون "الله يسلم أعماركم"، يتابع المعزّي "الله يرحمه ويبقيكم"، ويرد أهل العزاء: "تعيش ويرحم أمواتكم"، يقول المعزّي: "عز علينا بمصابكم" فيرد أهل العزاء "لا تنصاب ولا بغالٍ". وإذا كان من بين المشاركين أشخاص يعرفون المتوفي، فإنهم يقومون بذكر خصاله الاجتماعية كأن يقولوا فيه مثلاً: "كان رجلاً صادقاً وفياً أميناً عرفناه خلال مدة زمنية، يتميز بأخلاقه وسلوكه الطيب"...إلخ من شهادات إنسانية وصفات حميدة. وإذا كان غير ذلك يصمتون من دون ذكر شيء، إثباتاً أنهم فقط يقدمون واجب العزاء يقيناً وتطبيقاً للعادات الاجتماعية القائلة: "إن الأجر للحي مش للميت".

فضيلة الشيخ حمزة حمزة

أما إذا كانت خصاله جيدة وأفعاله حميدة يكون الرد "الله يديم مثناكم بالخير"، ثم يتم إلقاء التحية "السلام عليكم" ودعوتهم للجلوس. تلك العبارات كانت تستمر لمدة أربعين يوماً ويستمر أيضاً تقديم الولائم، الأمر الذي دفع قادة الرأي في المجتمع لتشذيب هذه العادة واختصارها لمدة أسبوع فقط، حيث يتم دعوة أهل العزاء من قبل الجيران على الولائم، ثم تم اختصار الأسبوع إلى ثلاثة أيام. وجرى إحداث صناديق تكافلية اجتماعية لتقديم وجبات الطعام لأهل العزاء لمدة ثلاثة أيام. وبسبب جائحة كورونا وما تطلبه من تباعد المكاني، تمّ اختصار العزاء إلى يوم واحد فقط، ينتهي بانتهاء مدة العزاء لساعة أو ساعتين فقط".

وأشار الأديب "جهاد الأحمدية" عضو اتحاد الكتاب العرب بالقول: "كانت عادة العزاء في الماضي تثبت قوة شخصية وجرأة المعزّي أمام جمع غفير من المشاركين، ومهما يكن الحدث والمصاب جلل، فإن عبارات المشاركة تدخل السكينة والإيمان بالقضاء والقدر. واليوم ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصال عبر الشابكة الإلكترونية، فقد اختصر بعض المعزّين واجب العزاء على الاتصال الهاتفي، وغالباً عبر منشور على الفيسبوك يتم من خلاله تقديم واجب العزاء. ولكن تبقى هذه العادة من العادات الجامعة لمنظومة من القيم الاجتماعية والدينية التي باستمرارها تستمر العلاقات الاجتماعية والقيمية والأخلاقية وتعمل على تعميق الإيمان بالقضاء والقدر".

الأديب جهاد الأحمدية

الباحث في التراث "محمد طربيه" عضو اتحاد الكتاب العرب أوضح بالقول: "المتتبع لعادة العزاء بين الماضي والحاضر يشعر بأهميتها في تداول الأحداث والأخبار بين الفئات المجتمعية، خاصة أثناء اللقاءات بين أهالي القرى البعيدة. اليوم، وبعد أن تم إلغاء الولائم التي كانت تشكل عبئاً مادياً على أهل القرية وصاحب العزاء، ومع توفر وسائل النقل السريعة، اختصرت العديد من ماهية تلك العادات، وأصبحت ضرورة للتفاعل المجتمعي وتمتين الروابط المجتمعية. وهذا ما دفع قادة الرأي إلى اختصار العزاء مع ما يجتاح البلاد من أمراض ومشاكل ومعوقات للحياة إلى يوم واحد فقط. وهذا الإجراء شكّل موقفاً إنسانياً ووجدانياً واجتماعياً".

لكاتب محمد طربيه