على الرغم مما عاناه من صعاب في الحياة، وصبره على فقد أولاده في أحلك الظروف من دون تراجع عن ثوابته؛ بادر المجاهد "عطا الله أبو سعيد" قبل قرن وربع القرن، بنقل المؤن والذخيرة إلى الثوار في وادي "السرحان"، متحملاً التعب والأخطار.

حول سيرته وشخصيته ومبادرته الوطنية التي حمل بها المؤن والذخيرة -على الرغم من عيون الاستعمار- إلى الثوار في "وادي السرحان"، وفقده أولاده الثلاثة بحوادث مأساوية، مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 10 كانون الثاني 2019، التقت الدكتور "عادل أبو سعيد" أحد أحفاده، الذي أكد قائلاً: «مع بداية القرن الماضي، وتحديداً عام 1900 ولد المجاهد "عطا الله أبو سعيد" في قرية "امتان". وتكمن مسيرة المجاهد في الحياة البائسة؛ وهي أشبه بمأساة لما قاساه المجاهدون من جوع وبؤس وعذاب، إذ في الخامس عشر من شهر تموز 1925 كان من طليعة ثوار قرية "امتان" مع أبناء عمه الشهداء "عبد الله، ونجم، وهاني"، الذين كان لهم شرف الاستيلاء على دبابة وقتل طاقمها، وقلبها رأساً على عقب في معركة "الكفر". وربما لم تنحصر حياته بالبؤس والشقاء قبل عودته مع الثوار إلى الوطن إثر توقيع المعاهدة الفرنسية السورية عام 1936، بل كانت أكبر صفحة مأساوية في حياة رجل مؤمن مجاهد، وأعظم مثال في الكبرياء والحفاظ على مكارم الأخلاق، والصبر على المصائب الجسام، فبعد أن تزوج ونزح إلى الصحراء الأردنية مع نزوح الثوار، كانت زوجته معه وطفلاه "فهد" ابن الخامسة، والثاني "صياح" ابن الثالثة ونصف؛ فوضعت الزوجة وليدها الثالث في المنفى، ونظراً إلى قلة الغذاء فقدت حياتها بعد الولادة بسبعة عشر يوماً، ثم رحل الطفل وراءها، ما أجبره على استدعاء والدته من قرية "امتان" لرعاية طفليه الباقيين، وفي أحد الأيام ذهب لزيارة صديقيه "علي وهايل سلام" اللذين كانا ينزلان في مكان قريب من منزله، لحق به الطفل "صياح" من دون أن يشعر الأب، وقضى في هذه الزيارة إلى ما بعد المغيب، وعند عودته سألته والدته عن الطفل، فأجاب أنه لا يعرف عنه شيئاً، وعاد إلى صديقيه يسأل عن الطفل، فلم يرشده أحد. تابع سيره إلى الغابة الكثيفة المسماة "حرجة الترفة"، واستمر البحث لأسبوع والأب المصاب بفلذة كبده لا يعود إلى بيته حتى تملكه اليأس، واشترك بالبحث عن الطفل "سلطان باشا الأطرش"، والأمير "عادل أرسلان" طوال الأسبوع. عاد البائس ولسانه يتدلى؛ وقد صبغه السواد وارتمى في سبات عميق، وحضر الشاب "ناصر حمشو" وقد كان يرعى قطيع الثوار، وأخبر الأم عن مصادفته للطفل، فذهب الثوار إلى مكانه فوجدوه قد فارق الحياة».

يمثّل الراحل "عطا الله أبو سعيد" أهم مبادرة إنسانية عندما كان يعمل على الرغم من مصاعب الحياة والمصائب التي لحقت به، وكان يقدم للثوار المؤن والذخيرة، ونقل على أكتافه أثناء عودته إلى أرض الوطن واحداً من الثوار، فكان أهم المبادرين لنشر ثقافة التعاون والتكافل الاجتماعي والعمل الجماعي، وساهم في الأعمال الخيرية والاجتماعية من منطق الثائر الوطني المنتمي إلى أرضه وثقافته وأهله في وطنه وخارجه وفي قريته "امتان"

وجاء في كتاب الراحل "نعمان حرب" بعنوان "أبطال منسيون": «أبى القدر أن يترك فرصة لهذا المجاهد الصابر كي يرعى طفله الثالث، ففي إحدى الليالي المعتمة استيقظ فجأة على صراخ طفله "فهد"، فحمله بين يديه، لكن الطفل استمر في صراخه وبكائه، وتنادى الجوار على صراخ الطفل، وكان مع أحدهم مصباح غاز فتناول الطفل من بين ذراعي والده، حينئذ سقط من ثياب الطفل جرذ كبير، ولما كشف عن ظهر الطفل تبين أن الجرذ قد مزق لحمه حتى العظم. حصل الأب المكلوم على توصية من القائد إلى أحد كبار التجار السوريين في "عمان" لمساعدته بإجراء التداوي والعناية به، لكنه لم يجد الطبيب العربي في المستشفى، إنما وجد طبيب بريطاني "طومسون" الذي بدأ معالجة جرح الطفل، لكنه في الوقت نفسه أخذ يساوم الأب على شراء الطفل المصاب بمقدار وزنه من الذهب؛ لأنه وزوجته عاقران، وأخذ يغري الأب بالتخلي عن ولده؛ وهو ما أثار مشاعر الأب وحميته وخاطب الطبيب قائلاً: "إنكم استوليتم على أرضنا وصادرتم أملاكنا، وترغبون أيضاً بسرقة فلذات أكبادنا، ونحن هجرنا وطننا حفاظاً على كرامتنا وأرضنا، فكيف نفرط بفلذات أكبادنا؟" وحين عرف الطبيب أنه من ثوار الثورة السورية الكبرى ومن النازحين إلى "الأردن"، أخذ يراوغ ويلاطف الوالد إلى أن هدأت ثورته، وبحجة إنقاذ الطفل اقتلع أحد أضراسه ودس السم مكانه، ونصحه بالعودة إلى بيته لخطورة وضع الطفل الصحي، ووجد الطفل نفسه في وضع سيئ، حيث خاطب والده عن رعشات جسمه، وباختلاط الألوان في عينيه، وأكمل الأب مسيره إلى الجهة الشرقية من مدينة "عمان"، حيث ردّد الطفل أنفاسه الأخيرة، ومرت قافلة من الإعراب تنقل الملح من مضارب الثوار لكي لا يستفيدوا من أثمانها في هجرتهم القسرية كمساعدة لهم، وعندما رغب بنقل جنازة ولده إلى المدفن انهارت قواه وكف بصره، واحتقنت حنجرته، وسقط أرضاً، ونقل الطفل إلى المدفن والأب إلى منزله، ومن الصحراء نقل إلى "الأزرق" الأردنية إلى بيت "أحمد كيوان"».

المعمر الشيخ نجم جابر

وتابع "نعمان حرب" بكتابه يقول: «مكث المجاهد الصابر في بيت مضيفه مدة تسعين يوماً، وهو كفيف النظر، وأخرس اللسان، وبقي صامتاً شهراً كاملاً بعد شفاء نظره أثناء إقامته القصيرة في "عمان"، وكان خارجاً لقضاء حاجة خارج المدينة، وأثناء عودته صادف شخصاً يسير أمامه وحزامه يتدلى على جانبه حتى وصلت أطرافه إلى الأرض، وأثناء انحرافه إلى جانب آخر من الشارع مرت سيارة بدولابها على الحزام، فسقط أرضاً من دون أن يشعر صاحبه، وسارع المجاهد إلى التقاط الحزام، فأخذ يطرق الباب إلى أن فتح وشاهد الرجل يجلس في غرفة مقابلة للباب، وعندما شاهده صاح: (أبعدوا هذا الرجل عني، وهو يلاحقني من شرقي البلاد إلى هنا)، وأغلق البوابة بوجهه بعنف، ولم يتراجع عن غايته النبيلة وأمانته التي لا حدود لها، وعاد يقرع الباب ثانية، ملوحاً بالحزام الذي سقط من الرجل، عندئذ أدرك صاحب الحزام الغاية، وأخذ يحصي محتوياته من الليرات الذهبية، التي بلغ عددها 114 ليرة ذهبية إنكليزية وتسعة عشر جنيهاً فلسطينياً».

وبيّن أحد المعمرين الشيخ "نجم جابر" الذي تجاوز القرن من العمر، بالقول: «يمثّل الراحل "عطا الله أبو سعيد" أهم مبادرة إنسانية عندما كان يعمل على الرغم من مصاعب الحياة والمصائب التي لحقت به، وكان يقدم للثوار المؤن والذخيرة، ونقل على أكتافه أثناء عودته إلى أرض الوطن واحداً من الثوار، فكان أهم المبادرين لنشر ثقافة التعاون والتكافل الاجتماعي والعمل الجماعي، وساهم في الأعمال الخيرية والاجتماعية من منطق الثائر الوطني المنتمي إلى أرضه وثقافته وأهله في وطنه وخارجه وفي قريته "امتان"».

د. عادل أبو سعيد

يذكر، أن الثائر الراحل "عطا الله أبو سعيد" قد توفى عام 1961، وأقيم له موقف حافل في مسقط رأسه.