عرفه الناس بأنّه الكاتب الساخر المتهكّم على كل شيء، وبقي حتى اللحظة مؤمناً بمبادئه التي دفع ثمنها غالياً. وعلى الرغم من أنّ زاويته الأسبوعية كانت ترفع من مبيعات الصحيفة التي يكتبها فيها، إلا أنّ ذلك لم يشفع له لكي يكرّم يوماً إلا من الناس.

مدونة وطن "eSyria" التقت الصحفي الكبير "فواز خيّو" بتاريخ 5 كانون الأول 2016، لتفتح معه كأول وسيلة إعلامية ذكرياته مع الصحافة والشعر، وأيام الطفولة الأولى، حيث قال: «الشيء المميز في طفولتي هو أنه لم يكن هناك طفولة؛ فقبل أن تلدني أمي بأيام، في شهر تشرين الأول عام 1961؛ في قرية "رضيمة اللوى" كانت ذاهبة إلى الحقل وهي راكبة على الحمار، جفل الحمار، فوقعت عن ظهره؛ سبّب هذا الحادث التواء في قدمي؛ وهو ما جعلني أقضي معظم ما يسمى طفولة بين القرية ومستشفى "المواساة"، كنت أجرّ رجلي ورائي لسنوات، ولم يفدني في تجليس القدم سوى ركوب الدراجة والضغط على القدم، كنت أحلم أن ألعب وأركض كالأطفال، هذه القسوة خلقت في نفسي تمرّداً على كل شيء، كنت أكره المدرسة، فيضربني المعلم الذي تحوّل إلى كابوس، وجعل أبي يقسو عليّ، فصار عندي كابوسان، المعلم وأبي. هذا الأمر رتب لي غربة قاسية، وبدأت أرفض كل التقاليد السائدة.

صحيفة "الثورة" هي بيتي الذي قضيت فيه ثلاثين عاماً، كانت ملأى بحروب وخصومات وصداقات، فيها عرفت الناس وعرفوني، ففي عام 1985 دخلت مطابع الصحيفة كعامل كهربائي خريج ثانوية صناعية، وفوجئت عند التقدّم للمسابقة أنّ المدير الإداري اسمه "جميل بدر"، هو الذي علّمني في الصف الأول الابتدائي وساعدني في التعيين. لم يخطر في بالي يوماً أن أصبح صحفياً، كان همّي نشر قصائدي فقط، عشت سنوات قاسية في المطابع، وحين كان يحصل عطل في الآلة على الجميع أن يتحرّك باتجاهها مهما كان اختصاصه، كنت أرى الصحفيين يأتون في العاشرة ويخرجون في الواحدة، بينما كنت آتي إلى المطبعة قبل الثامنة، ولكوني مختصاً فقط، تحمّلت حروب الذين اكتسبوا خبرتهم عبر الممارسة ولا يحملون شهادة. وحين صدرت مجموعتي الأولى "سفر في الجنون"، وبعد وساطات نقلت إلى التحرير، قسم الوكالات في دائرة الأخبار، كانت تستهويني السخرية، فنشروا لي زاوية صغيرة في صفحة المجتمع، أعجبت سكرتير التحرير حينئذ "طالب أبو عابد"، وبعد أشهر جاءنا الأستاذ "عميد خولي" رئيساً للتحرير، طلب زوايا ساخرة، فأخبره "أبو عابد" عنّي

كل الآباء تربّوا على أن الحنان هو انتقاص من رجولتهم، ومع هذا، كان أبي يقبّلني صباح العيد قبلة سريعة، فتقول له أمي: (بوسو لهالولد)، فيعيد القبلة بأسوأ منها.

من أمسياته الأخيرة

كنت منذ الطفولة أكره كل ما هو تقليدي، وعلى الرغم من كرهي للمدرسة، كنت من الثلاثة الأوائل. كنت أحاول أن أكتب عن عذاباتي، ثم أمزّق ما كتبت، مع أنّ أشياء كثيرة يمكن أن تغري الطفل، فقد كان قلم "الباركر" الأحمر الذي أعطاني إياه والدي حين جاء من "الكويت" أثمن هدية أتلقاها، ومنذ ذلك الوقت ما زال القلم والقدّاحة من أكثر الأشياء التي تستهويني؛ القدّاحة تشعل السيجارة ليخرج احتراقي منها على شكل دخان، والقلم يدوّن هذا الاحتراق، عواصف وغيوم متداخلة في داخلي كانت تتبلور، ثم ظهرت في الثانوية صبيّة في عالمي، لتشعل رحلتي مع الكتابة».

أما رحلته الأولى مع القلم، فكانت لها قصة ممتعة، حيث أضاف: «كان راتب الخمسين ليرة سورية شهرياً لطالب الثانوية الصناعية عام 1977، إن لم يكن إغراء؛ فهو على الأقلّ يعفي الأهل من تكاليف الدراسة، بعد الكفاءة دخلت الثانوية الصناعية، اختصاص كهرباء؛ وهذا يعني سكني في مدينة "السويداء"، في ذلك العام رأيت مخلوقات جديدة؛ الكهرباء، والبراد، والغسالة، والهاتف، وغيرها. لم أختلط معها، لكن تعرّفت إليها، في حصص العملي كنا نلبس بدلات زرقاء، فنتحوّل إلى قطعان وقت الفرصة؛ وهذا منحنا قدراً من المعنوية، وكسبت أصدقاء رائعين، وبدأ يتكون عندي حسّ السخرية؛ وهو ما منحني ثقة معظم الزملاء، فكانوا يرشحونني للمناظرات مع الثانويات الأخرى، وكنت أخذلهم دائماً، ومع هذا ظلوا يثقون بي ويرشحونني. وحتى الآن لم تكن لدي هواجس كتابية، خاصة في ظل غياب كل ما يتعلق باللغة العربية في مناهجنا.

محمد الماغوط

في أواخر سنة "البكالوريا" وذات مساء، كنت واقفاً أمام غرفتي، فمرّت جارتي "هاء" طالبة "البكالوريا"، ملقية نظرة طويلة غامضة، عيناها شبه مغمضتين، لكنهما فتحتا فوهة في داخلي لتوقظ براكين استمرّ اشتعالها بضع سنوات، ولم تخمدها إلا براكين أخرى، أشعلها غيرها. لم تكن تدري أنها بمرورها البسيط ونظرتها الغامضة حتى الوضوح، قد اخترقت جدار الصوت عندي، وأدخلتني محرقة الحب والكتابة، حتى حين تواصلت معي بعد خمسة وثلاثين عاماً، لتطمئن على زوجتي وابني أثناء اختطافهما؛ لم أخبرها أنها هي من جعلني أحمل القلم».

تركت "السويداء" مجبراً بسبب انتهاء الدراسة، والتحقت بالجيش، وبدأت أكتب الشعر لأعيد استحضار "هاء" الغائبة، تعلمت بحور الشعر، وكانت إذاعة "لندن" هي ما جعلني أتقن اللغة. كنت أسمعها دائماً، فتكوّنت عندي السليقة السماعية، كنت أكتب وأمزّق، وأقرأ. وبدأ اهتمامي بالشاعر "عمر أبي ريشة" الذي مثّل لي سارية مع "محمد الماغوط". التقيت الشاعر الكبير، وتوالت لقاءاتي معه حين كان يزور "سورية"، والتقيت "الماغوط" الذي جمعتني به زمرة دم واحدة. كان لكبرياء "أبي ريشة" وتمرّده، وتشرّد "الماغوط" وسخطه، انعكاس في داخلي، فقد كانا بالنسبة لي مظلّة روحية ونفسية، فحين تصادق مبكراً أناساً كباراً؛ فلن ترهب من أحد حين تقابله؛ لأنّك قابلت من هم أهمّ منه سابقاً.

جمعتني بـ"الماغوط" علاقة دم، وعلى الرغم من طبعه النافر من كل شيء ومن معظم الناس؛ إلا أنّه كان يحبّني كثيراً، وحين أتأخر عنه يرسل إليّ لأزوره. كنت حين أروي له بعض "النكات"، تتراقص كتفاه العريضتان من الضحك. كان يتابع زاويتي الساخرة في صحيفة "الثورة" باهتمام ومحبة.

فأن يتابعك "الماغوط"، و"دريد لحام"، ويقومان بقصّ زاويتك من الصحيفة ليحتفظا بها، وهما من أسياد السخرية، وتباع صحيفة "الثورة" سريعاً حين تكون زاويتك على صفحتها الأخيرة، وبعض باعة الصحف يصوّرون زاويتك ويبيعون النسخة بسعر الصحيفة؛ هذا الأمر بقدر ما يسعدك، بقدر ما يحمّلك مسؤولية أخلاقية ووطنية، ليس من السهل الوفاء لها».

أمّا قصة دخوله الصحافة، فيوجزها بالقول: «صحيفة "الثورة" هي بيتي الذي قضيت فيه ثلاثين عاماً، كانت ملأى بحروب وخصومات وصداقات، فيها عرفت الناس وعرفوني، ففي عام 1985 دخلت مطابع الصحيفة كعامل كهربائي خريج ثانوية صناعية، وفوجئت عند التقدّم للمسابقة أنّ المدير الإداري اسمه "جميل بدر"، هو الذي علّمني في الصف الأول الابتدائي وساعدني في التعيين. لم يخطر في بالي يوماً أن أصبح صحفياً، كان همّي نشر قصائدي فقط، عشت سنوات قاسية في المطابع، وحين كان يحصل عطل في الآلة على الجميع أن يتحرّك باتجاهها مهما كان اختصاصه، كنت أرى الصحفيين يأتون في العاشرة ويخرجون في الواحدة، بينما كنت آتي إلى المطبعة قبل الثامنة، ولكوني مختصاً فقط، تحمّلت حروب الذين اكتسبوا خبرتهم عبر الممارسة ولا يحملون شهادة. وحين صدرت مجموعتي الأولى "سفر في الجنون"، وبعد وساطات نقلت إلى التحرير، قسم الوكالات في دائرة الأخبار، كانت تستهويني السخرية، فنشروا لي زاوية صغيرة في صفحة المجتمع، أعجبت سكرتير التحرير حينئذ "طالب أبو عابد"، وبعد أشهر جاءنا الأستاذ "عميد خولي" رئيساً للتحرير، طلب زوايا ساخرة، فأخبره "أبو عابد" عنّي».

ويتابع: «اعترض بعض محرّري الثقافة الذين كانوا يماطلون في نشر قصيدتي، بينما كنت أرسلها إلى صحيفة "السفير"، فتنشر خلال أسبوع، لكن رئيس التحرير قال لهم: لماذا تعترضون؟ هل سيفرض علينا زواياه؟ إذا أعجبتنا كتاباته سننشرها، وإذا لم تعجبنا، فلا. قدّمت نماذج ساخرة لرئيس التحرير، ونشر زوايا ساخرة لثلاثين محرراً، تم انتقاء ثلاثة نماذج منها، كنت واحداً منهم؛ وهذا الأمر أيقظ التحدّي في داخلي، وخلال شهرين صار الناس يتابعون الصحيفة ليقرؤوا زاويتي، وصرت عضواً في اتحاد الصحفيين.

النجاح طعمه مرّ؛ ما إن تنجح حتى تبرز سكاكين العاجزين عن النجاح، منهم من اعتاد أن يبقى صغيراً، مع أن لديه إمكانيات لا يعرف كيف يوظّفها، ولا يحتمل أن يرى أحداً يكبر، عانيت الكثير من هؤلاء، ولم أحقد عليهم، بل أشعر بالشقفة؛ لأنهم يصرفون وقتهم برشق الآخرين بدل استنهاض طاقاتهم، الآن أكتب اسمي على "غوغل"، فأجد الكثير من الزوايا التي تعود إلى أكثر من عشر سنوات، وما زالت على المواقع التي كانت تأخذها عن الصحيفة، وكان همّي الوحيد طوال عملي مؤسسة تضمن عدالة معقولة بعيداً عن المحسوبيات، أنا متقاعد الآن، لكن ستظلّ "الثورة" بيتي».

"فواز خيو" ليس صحفياً فقط، أو صاحب اللسان الذي لا يرحم كما يظنّ بعضهم؛ هو شاعر مرهف الإحساس، لدرجة أنه اعتزل الشعر، وعن ذلك يقول: «لم تكن بنيتي الجيولوجية التي تعاني تصدّعات وانهدامات كثيرة مهيّأة لهبوب عواصف الحب والشعر. وفي حضرة الحبيبة من الصعب أن تكتب قصيدة جميلة؛ لأنها هي القصيدة. الشعر ابن الألم، استحضار الغائب، الوطن، الحبيبة. والشاعر محضر أرواح، مشعوذ بطريقة ما؛ يستحضر ويرسم، ويعيد صياغة العالم كطفل مغفّل، يظنّ أنّ أنامله تحدّد معالم الأشياء.

جمرة الشعر تحولت إلى كتلة ملتهبة تتنقل في داخلي بشكل مدمر. كنت أتنفّس الشعر؛ وهذا ترافق مع القلق الوجودي والتوتر النفسي، والعقل الباطن كان في ذروة توهجه، وهو الذي كتب قصائدي وبعض زواياي، أحياناً أندهش منها، وأقول: لا علاقة لي بها. أي شياطين يمكن أن تكتب صوراً شعرية كهذه: (المدى رجع عينيك لما ترمقاني، والندى صمت كفيك لما تلمساني.. ذهبت وما رجعت خطاي.. ما عاد لي منفى سواي).

أيّ غربة، وأيّ اغتراب أعيش حين أقول: (هارباً مني أتيت هارباً مني سأمضي). هذه الجمرات لو بقيت في داخلي لقتلتني. الإبداع هو استخراج فضلات الروح والدماغ، كي لا تقتل صاحبه، هي مخاض مؤلم. كنت أستيقظ من النوم لأعدّل في القصيدة، كنت مسكوناً بهاجس الموت أو الرحيل والارتحال. ولكي أنقذ ما تبقّى مني، اعتزلت الشعر وسط ذهول كل أصدقائي؛ لمعرفتهم أنّ الشعر هو الشريان الوحيد الذي أستمدّ منه الأوكسجين.

بعد أن طبعت مجموعتيّ "سفر في الجنون"، و"طائر في الفضاء الوعر"، اللتين لاقتا قبولاً جميلاً، أهديتهما للكبيرين "عمر أبي ريشة" و"محمد الماغوط"».

الصحفي "أحمد حمادة"، قال عنه: «عُيّنت في قسم الأخبار بصحيفة "الثورة" عام 1994، فتصبّحت بوجه صحفي "منتوف" ومغضوب عليه من الإدارات المتعاقبة، هو الزميل الرائع "فواز خيّو".

كان عصبياً ويراه الكثيرون فوضوياً، وكانت ساعات عمله ملأى بالحروب والخصومات، وقبلها بالصداقات، التي كنتُ أوّل حبّات عقدها؛ لأنه كان يمثل لي نسق الأدب والطيبة، ونظافة اليد والقلم والقلب والسريرة، وبعد النظر والرؤية السليمة.

عُيِّنَ "فواز" عام 1985 في مطابع الصحيفة كعامل كهربائي، كان كاتباً مميزاً، تستهويه الكتابة الساخرة، فنقل إلى التحرير الصحفي لاجتهاده، وكان الكثيرون من القرّاء يتابعون صحيفة "الثورة" ليقرؤوا زاوية "أبجد هوز" التي ارتدت هويته كما جاء في عيّنات الاستبانات آنذاك.

حارَبَتهُ كل الإدارات المتعاقبة بحجة أنه جاء من المطبعة، فكلما كان رفاقه يطالبون بحقوقه وضرورة تسلّمه منصباً صحفياً أو إيفاده إلى الخارج لأنه خير من كتب الزاوية الساخرة والمقالة الأدبية؛ كانت الأصوات الرافضة لذلك تعلّق خيباتها على ذاك المشجب، وظفر أخيراً بإيفاد خارجي مرّة واحدة، إلى "العراق" بعد غزوه وفوضاه الهدّامة، فتندّر ضاحكاً: إنهم يريدون أن يتخلّصوا منّي.

عاش "فواز" في الصحيفة أكثر من ثلاثة عقود، ثم استقال منذ أسابيع من دون أن يتسلّم أي منصب إعلامي في حياته بسبب تلك الذريعة، إلا من رئاسة "جمعية أزواج بلا حدود"؛ كما يتندّر».