لم يكن "قاسم أبو خير" مجاهداً عادياً، لا في النشأة، ولا في الشباب، ولا حتى عندما استتبّت الأمور في وطنه الجريح، وتتلّخص حياته في موقف واحد جمعه مع "ديغول" في بيته. وما زالت وثائقه تكشف الكثير من تاريخ تلك الحقبة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 13 تشرين الثاني 2016، "مروان أبو خير" ابن المجاهد "أبو خير" في قرية "عرمان"، حيث تحدث عن البيت الذي نشأ فيه والده، فقال: «ولد المجاهد "قاسم أبو خير" في قرية "عرمان" عام 1887، تعلّم فيها وفي "مضافاتها" القيم العربية الأصيلة، تلك القرية المتربعة بين "صلخد"، و"امتان"، و"ملح الصرار". وقدمت ما ينوف عن مئتي شهيد في سبيل الوطن واستقلاله.

إنني مرتاح الضمير، وسأذهب إلى جوار ربي بعد أن قمت بواجبي نحو أمتي وبلادي، لقد شهدت أهوالاً كثيرة أنزلها المستعمر بوطني، كنا نستقبلها بحزم، ونتغلب عليها بشجاعة. وحضرت معارك عديدة منذ صباي رأيت فيها مصرع والدي برصاص العثمانيين، ومرّت أمام عيني مناظر تقشعر لها الأبدان، وأنا أخوض غمرات الوغى بصحبة أبناء بلدي

كان جدّي "محمود أبو خير" من رجال "عرمان" الأقوياء، وعندما وصل وفد من الأتراك إليها أواخر تشرين الثاني عام 1896 من قبل الوالي التركي "ممدوح باشا"، والمؤلف من 32 عنصراً بهدف أخذ "ميثا الأطرش" بالقوة زوجة له خارقاً العادات والأعراف، نزل قسم منهم في ضيافة جدّي "محمود أبو خير"، الذي رفض طلب الباشا، فأردوه قتيلاً وسط مضافته، فانتقم الأهالي من الوفد وقتلوهم جميعاً عدا واحداً منهم لكي يبلغ قائده بالأمر.

منزله في عرمان

وهكذا نشأ والدي في بيت رجل مات شهيداً، واشتهر منذ شبابه الأول بحسّه الوطني وشجاعته، فانتمى إلى "جمعية العربية الفتاة" المناوئة للعثمانيين، وكان له نشاط مميز مع الوطنين من رفاقه لتحرير البلاد من الاحتلال العثماني، وشارك في معارك التصدي لحملة "سامي باشا الفاروقي"، وحضر معركة "الكفر" الأولى عام 1910، التي انتصر فيها الثوار، وتم دحر الحملة التي استشهد فيها 15 شهيداً، كما اشترك في معارك الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد العثمانيين».

الباحث في التاريخ، والصحفي المتقاعد "حسين خويص"، قال: «في عام 1920، أقسم "قاسم أبو خير" يمين الإخلاص للثورة ضد الفرنسيين في اجتماع كبير برئاسة المجاهد "رشيد طليع" مع عدد من أبناء "الجبل"، وحضر عام 1920 اجتماع "مجدل الشور" الذي عقده الوطنيون المناوئون للاستعمار الفرنسي برئاسة المجاهد "سلطان الأطرش"، وكان من القيادات الشعبية المكلفة بالقيام بأعمال الدعاية للثورة والتحريض على النهوض للحرب، ومقاومة المستعمر الفرنسي، وعندما نشبت "الثورة السورية الكبرى" عام 1925، كان في مقدمة الثوار، واشترك في معركة "الكفر" التي وقعت بتاريخ 21 تموز عام 1925، حيث انتصر فيها الثوار على الحملة الفرنسية وقتلوا قائدها "نورمان"، كما شارك في معركة "المزرعة" من 30 تموز حتى 3 آب سنة 1925، وكان أحد المجاهدين الذين أبلوا بلاءً حسناً، حيث أصيب في معركة "تل الخروف"، وقتلت فرسه، وأنقذه ابن اخته "منصور الصغير". وفي أوائل أيلول عام 1925 انعقد مؤتمر "ريمة اللحف" للقوى الوطنية السورية برئاسة "سلطان الأطرش"، وتم تسمية أركان الثورة، وكان من بينهم "قاسم أبو خير"».

مع بعض أقاربه

وجاء في كتاب الباحث "محمد جابر" الذي يحمل عنوان: "أركان الثورة السورية الكبرى": «اشترك المجاهد "أبو خير" في معركة "المسيفرة" بتاريخ 17 أيلول، على الرغم من معارضته الهجوم عليها من قبل الثوار، لكنه أيّد رأي القائد العام للثورة، واشترك في معارك "السويداء"، ودارت معارك عديدة في القرى المجاورة لها، وأبدى بطولة خارقة في معركة "رساس". وفي أواخر عام 1925، شارك ضمن حملة الإقليم تحت قيادة "زيد الأطرش"، وخاض معارك عديدة، منها: "راشيا"، و"حاصبيا"، و"مرجعيون"، و"كوكبة"، واشترك في معركة "تل الحبس" شرقي "صلخد"، حيث قتلت فرسه فيها عام 1926، وفي صيف عام 1926 دمّر الفرنسيون داره في قرية "عرمان"».

كان النفي مرهقاً، لكن الحياة علّمته كيف يتغلّب على المصائب، حيث يتابع "جابر" سرد تفاصيل النفي، ويقول: «في عام 1927 ارتحل مع الثوار من "الأزرق" إلى "النبك" في "وادي السرحان" بالسعودية، وفي عام 1928 ذكر أنه نام والزعيم "شكري القوتلي" في فروة واحدة عندما زارهم هناك لعدم توفر الغطاء، وفي عام 1929 أصيب بمرض وهو في "النبك" بسبب صعوبة العيش في الصحراء، وتقلّب الطقس، وسوء التغذية والجوع أيضاً. وكان الثوار يطلقون لقب مجاهدة على زوجته "أمينة صيموعة"؛ لما قامت به من أعمال مذكورة في الثورة.

الباحث محمد جابر

وكلّف و"علي عبيد" عام 1932 على رأس وفد مثّل المجاهدين في المؤتمر الاسلامي الذي انعقد في "القدس" لمعالجة القضية الفلسطينية».

وفي 19 أيار من سنة 1937، عاد إلى أرض الوطن برفقة القائد العام ورفاقه المجاهدين، وعندما وصل إلى "السويداء"، قال: «إنني مرتاح الضمير، وسأذهب إلى جوار ربي بعد أن قمت بواجبي نحو أمتي وبلادي، لقد شهدت أهوالاً كثيرة أنزلها المستعمر بوطني، كنا نستقبلها بحزم، ونتغلب عليها بشجاعة. وحضرت معارك عديدة منذ صباي رأيت فيها مصرع والدي برصاص العثمانيين، ومرّت أمام عيني مناظر تقشعر لها الأبدان، وأنا أخوض غمرات الوغى بصحبة أبناء بلدي».

لم يقتصر دوره على الجهاد، فقد كان السياسي المحنّك الذي يعمل لمصلحة استقلال بلده، ولا يأبه لمنصب أو منحة من أحد؛ وهو ما عرف عنه عندما استقبل في منزله الجنرال "ديغول" عام 1942، حيث يتابع "حسين خويص" سرد وقائع هذه الحادثة بالقول: «حين ذهب الجنرال "ديغول" إلى "صلخد"، دعاه "قاسم أبو خير" إلى منزله في "عرمان"، وقدّم له طعام الغداء، وبعد رفع المائدة، طرح عليه "ديغول" أن يقبل منه مبلغاً من المال تعويضاً عن بيته الذي هدمه الفرنسيون، وأملاكه التي صادروها؛ فرفض، ثم عرض عليه منحة دراسية لولده "جاد الله" لكي يتعلّم في "فرنسا"؛ فرفض أيضاً، وقال: (لا أريد منك إلا أن ترحل عن وطني، وتذهب إلى وطنك).

وفي آخر عمره، أصيب بوهن جسدي تحوّل إلى ما يشبه الشلل، وتقديراً لدوره في الجهاد الوطني كان محطّ اهتمام الرئيس "شكري القوتلي" حتى وافته المنية في 13 أيار عام 1959، وأقيم له حفل تأبيني كبير، ودفن في بلدته "عرمان"».