مثقفة وعاملة، تمردت على الجهل ورفضت الخضوع لواقع الأمية متقدمة على بنات جيلها، هي المعلمة الأولى في "السويداء"، خاضت مجال الأعمال والتطوع محققة ذاتها في زمن ليس زمن المرأة.

مدونة وطن "eSyria" بحثت في الزمن الذي كانت فيه طالبات المدارس تعد على أصابع اليد، لتتعرف "مي أشتي" السيدة التي تفوقت ونالت التعليم المسموح للنساء في تلك المرحلة منتقلةً إلى العمل في سياق حالة اجتماعية وسياسية لها سماتها، والتقينا في البداية ابنها الأستاذ "معن أبو الحسن" مجاز أدب إنكليزي ومغترب في دولة "الإمارات العربية"، وذلك بتاريخ 8 كانون الأول 2014، وعن حياة والدته يقول: «درست والدتي للحدود التي كانت متاحة للإناث في تلك الفترة أي إنها لم تحصل على شهادة أكثر من الشهادة الإعدادية وفق ذلك الزمن، لكن إذا ما تحدثت إليها وعلمت أنها تتقن اللغة الفرنسية وتقرأ لكتّاب عالميين وتنال حصتها من ثقافة متنوعة وعميقة أضافت لشخصيتها القوية ثقة وحضوراً تميزت به وعبر عنه من عاصروها، تدرك أنها تنافس أعلى الشهادات، كانت متفوقة في ذلك الزمن وقد طلب الحاكم الفرنسي موافقة جدي لتلتحق بالدراسة في "فرنسا"، لكنه رفض لأنها ستعيش وحدها هناك وهذا ما يتعارض مع العرف الاجتماعي الذي كان سائداً في المنطقة».

هذه السيدة التي عاشرت عائلتها ستكون بطلة روايتي القادمة وهي قيد الإنجاز، حيث استقيت من تجربتها الكثير ونحن اليوم بحاجة للتعريف بهذه التجربة الإنسانية الملامح؛ لتكون قدوة ومثلاً لمن امتلك طاقة العمل والتعلم

ويضيف: «بعد ذلك درّست في مدارس "السويداء" حوالي الست السنوات، ثم انتقلت مع والدها بحكم عمله في قطاع التربية ليتنقلوا بين "دمشق" و"القامشلي" وعدة مدن، لكن اللافت في سيرتها هو ذلك الحضور الثقافي والاجتماعي الذي اعتمدته لتكون ممثلة لمهنتها ولمشروعها الإنساني الذي كان سابقاً لتلك المرحلة التاريخية وظروف "سورية" التي كانت تعيش مراحل الاستقلال الأولى».

صورة للمعلمة مي أشتي مع طالباتها عام 1939

قصة حياة "مي أشتي" جذبت الروائية الدكتورة "نجاة عبد الصمد" التي تربطها بـ"أشتي" علاقات عائلية، لتجمع من خيوط ذاكرة من عاصر السيدة "مي" قصصاً وتجارب لامرأة تجاوزت حدود الزمن لتكون اقتصادية مكافحة صاحبة فكر اجتماعي ووجود ثقافي، وعندما التقيناها تحدثت عن تلك السيدة العظيمة وتقول: «التقيتها في عقدها التاسع، امرأة ذات حضور جمعت عبر رحلة حياتها رصيداً معرفياً كبيراً، فهي المعلمة التي انتقلت مع زوجها الكاتب والباحث "سعيد أبو الحسن" لظروف ارتبطت به في تلك المرحلة إلى مدينة "القامشلي" لتعيش في مجتمع جديد، ولم تكن بحكم شخصيتها القوية لتنعزل عنه بل انسجمت معه، وكانت صاحبة مشروع اجتماعي اقتصادي زراعي اعتمدته في تلك المرحلة من خلال استئجار الأراضي وزراعتها، مستقدمة عمالاً من أبناء قرية زوجها "عرمان" ومن مختلف المناطق في "السويداء"، بدافع تقديم العون للشباب، وكانت قادرة في تلك المرحلة على متابعة هذا العمل لتكون مساهمة في دعم زوجها المتفرغ للعمل الفكري والتربوي متحملة هي مسؤولية الأسرة، وعند الانتقال إلى "دمشق" توافرت لها ظروف لتكون من العناصر الفاعلة في مؤسسة "الهلال الأحمر" والمشاركة في بطولات الرماية، فحصلت على جوائز تدل على أن هذه السيدة امتلكت طاقة التعلم في أي عمر وحققت بذلك حضوراً يستحق التعريف عنه كمثل وخبرة لكل النساء، وكان استقرار سكنها في حي "أبو رمانة" فرصة لممارسة هذه الأنشطة التي عبرت من خلالها لتحقيق ذاتها وهي المطالعة والباحثة عن كل ما هو جديد لتغني حياتها وحياة أسرتها، ثم درست الفرنسية وكانت تحادث زوجها بها، وحرصت وزوجها أن يحصل أولادها على التعليم المتقدم فأرسلت ابنها البكر للدراسة في "الهاي سكوول الأميركية" حيث درس والده».

وتضيف: «لأنها سيدة حرة ومثقفة بالقانون رفضت أن ترتهن لعرف اجتماعي يجرد المرأة من ميراث والدها، فتقاسمت مع الأخ ما أورثها والدها، وكان تلك فكرة متقدمة عن العصر فهي إلى جانب كونها المعلمة الأولى في محافظة "السويداء" كانت المرأة الأولى التي ترث عن والدها في ذلك الزمن، وفي قراءة لحضور هذه المرأة في تلك الفترة نتلمس حالة من التفكير المتجاوز لحدود الزمن والمرحلة، وحالة نسائية صلبة قادرة على العمل لتنتج من ليرة الذهب أضعافها، هو فكر اقتصادي امتلكته وكانت حريصة على أن تتقنه وقدمت نفسها من خلاله وبقيت متمسكة بهذه الفكرة لتكون مرشدة لأبنائها في هذا المجال».

وتختم: «هذه السيدة التي عاشرت عائلتها ستكون بطلة روايتي القادمة وهي قيد الإنجاز، حيث استقيت من تجربتها الكثير ونحن اليوم بحاجة للتعريف بهذه التجربة الإنسانية الملامح؛ لتكون قدوة ومثلاً لمن امتلك طاقة العمل والتعلم».

لم تكن مسؤوليتها الأسرية لتعيق مشروعها الثقافي كما حدثتنا الشاعرة "أميرة أبو الحسن" ابنتها الوحيدة وتقول: «تعلمت أمي الإنكليزية في عمر متقدم لتتمكن من محادثة أحفادها بهذه اللغة، وهي التي حرصت على تدريس أولادها وتثقيفهم بلغات متنوعة لتعدهم لمعركة الحياة التي عرفتها عن كثب، وهي التي تقدمت في سنوات شبابها الأولى للمحكمة طالبة تغيير اسمها وكان "مهاني" لتكون حالة التمرد الأولى على الاسم وتتبعه تفاصيل عبرت عن شخصيتها القوية، ومن المفيد في تجربة والدتي أنها اختارت في ذلك الزمن شريك حياتها الذي سعت لتتعرفه بعد أن طالعت كتاباته وأقرت أنه الزوج الذي ينسجم مع فكرها وطموحها الكبير، هي لم تعرف المستحيل واستقت من قراءات لروايات كتاب عالميين فكراً مكنها من استجلاب طاقة احتضنت بها الأسرة، وقد أسست منازل في كل الأماكن التي استقرت بها في "القامشلي" و"أبو رمانة" و"السويداء" و"لبنان" مدققة في مخططاتها، فكان تضع المخطط وتحسب المال وتنتقي المكان لأنها كانت في حركة دائمة اقتنعت بالعمل والثقافة مخلصة للحياة التي تستحق الجهد والعطاء، ولم تبتعد عن منظمة "الهلال الأحمر" والاتحاد النسائي وبقيت وفية لمجتمعها ولأبناء العائلة».

الجدير بالذكر، أن "مي أشتي" من مواليد 1918 مدينة "السويداء"، توفيت عام 1996، تزوجت من المرحوم "سعيد أبو الحسن" عام 1938، وأنجبت ثلاثة أبناء هم: "عدنان"، "معن"، و"رافع"، وابنة وحيدة هي الشاعرة "أميرة أبو الحسن".