دفن أخويه وولديه وقلبه قبل أن يترك قريته رافضاً بشكل قاطع السكنى فيها بعد فقدهم، بعد أن أدرك أن ثورته الداخلية لا يمكن أن تنطفئ إذا بقي جندي واحد في أرضه.

وبجسده القوي وفكره العسكري النادر، وبقدمين هشمهما الرصاص الأعمى، وبندقية بلا رصاص بقي واقفاً لنهار كامل، وأعداؤه يجلجلهم الرعب قبل أن يكتشفوا المعجزة، ويردوه قتيلاً.

مدونة وطن "eSyria" التقت الأستاذ المتقاعد "عبد الغفار ناصيف" يوم الأربعاء الواقع في 12 آذار 2014، والمولود في قرية "دوما" في العام 1945؛ الذي تحدث عن الواقع الذي عاشه الشهيد "ناصيف ناصيف حرب" قبل التحاقه بالثورة السورية الكبرى في العام 1925، فقال: «هو الولد الوحيد لجدي الشيخ الراحل "حمادي ناصيف" الذي أنشأه على العادات العربية الأصيلة، وعزة النفس، والكبرياء، وكان حريصاً علي ذلك لأنه الولد الوحيد الذي يحمل اسمه، والشيء الذي كان يشهد عليه الكبير والصغير آنذاك يتمثل في قدرته الخارقة على التسديد والتصويب بالبندقية من مسافات مختلفة دون أن يخطئ، وقد زوجه باكراً كما العادات القديمة في ذلك الوقت، فأنجب ثلاثة أبناء أكبرهم "فرحان ناصيف حرب"، والثاني "عساف ناصيف حرب"، والثالث كان صغيراً جداً، ويدعى "سلمان". وقد حاول أن يصنع منهم رجالاً أشداء كما كان والده يريده أن يكون، فتدربوا على ركوب الخيل والفروسية، وحمل السلاح الأبيض، والتسديد والتصويب من البندقية، وقد كانت القرية تعج بالشبان الأشداء على قلتهم، حيث أسس مع أبناء عمومته وأقاربه علاقات متينة تشاركوا فيها الفرح والترح، الجوع والدم والشهادة».

أما فيما يتعلق بالتحاقه وأبناء قريته بصفوف الثورة السورية الكبرى، فأكد: «التحق "ناصيف" بالثورة مشكلاً عصبة من أبناء قريتي "دوما" و"عراجة"، ضاماً إليها ولديه اللذين كانا في مقتبل العمر، وعلى العموم الذين ذهبوا إلى معركة "المزرعة" هم الإخوة وأولاد الإخوة، وكانوا بكل تحركاتهم وغزواتهم التي استمرت حتى ما بعد نهاية الثورة بشكل فعلي يأتمرون بأمر القائد العام للثورة السورية "سلطان الأطرش" أو من ينوب عنه في بعض المعارك، ولكن القيمة الكبرى للمجاهد الشهيد "ناصيف" كانت حاضرة بقوة الاحترام والمكانة التي يفرضها الأخير، وقد استشهد عدد من أبناء القريتين في "المزرعة"، ومنهم أخواه وولده الكبير فدفنهم بقلب يعصره الوجع، وكانت معركة "رقة الصقر" التي استشهد فيها ولده الثاني، وأبناء عمومته فدفنهم وتابع معركة من نوع آخر تتنازعه الهموم والكراهية والغضب، ولم تعد لديه رغبة في الحياة لولا تلك الدماء التي تصرخ في أذنيه، فحمل أسلحته وهجر القرية تاركاً زوجته ووحيده ابن الأربعة أعوام بلا أمل في اللقاء».

وعن المعركة التي كتبت أسطورته الحية، وشهدت يوم استشهاده، تحدث الفنان "غازي حمزة" عن تلك الساعات الطويلة، فقال: «أكمل المجاهد الشهيد دورة الحياة متنقلاً في أرجاء المحافظة مع الثوار حتى كانت تلك المعركة التي وقعت في قرية "بريكة" إلى الغرب من مدينة "شهبا"، حيث روى المجاهد الكبير "زيد الأطرش" وقائع هذه المعركة بعد زمن طويل في إحدى مضافات قريتنا؛ مؤكداً أن قوة فرنسية كانت متجهة إلى "السويداء" من غربي قرية "بريكة"، وكان الثوار متمركزين هناك بانتظارها عندما هجم "ناصيف ناصيف حرب" وحده لملاقاتهم من خلف رجم كبير شاهده كمتراس له، وأحس أن لحظته المنتظرة للانتقام قد دنت فصاح به "الأطرش" (يا ختيار وين رايح ارجاع)، غير أنه تابع طريقه مسرعاً عندما فتح الفرنسيون النار عليه بغزارة قبل أن يصل الرجم، لتبدأ معركته التي دامت ساعات طويلة. بدأ "ناصيف" إطلاق النار دون أي أخطاء في التصويب محاولاً كسر تقدم الفرنسيين، وإسقاط أكبر عدد من القتلى في صفوفهم، وكان الثوار بعيدين عنه، وغير قادرين على إمداده بالذخيرة التي كانت شحيحة في تلك الأيام. وقد حاول الفرنسيون جاهدين التقدم وكسر الحصار بعد أن اشترك الثوار من جانب آخر في قتالهم، وبعد مدة من الزمن سكت الرصاص القادم من الرجم، وساد السكون الثقيل أرض المعركة من كل الاتجاهات، ولم يستطع إخوته وأبناء عمومته وباقي الثوار الوصول إليه لمعرفة وضعه إن كان ميتاً أو مصاباً على الرغم من كل المحاولات التي بذلوها».

ثم تابع: «أعطى قائد الحملة الفرنسية الأوامر لبعض جنوده بالزحف إلى الرجم لمعرفة الأمر ووضع نهاية لذلك اليوم الذي عاشوه بالرعب والموت، وعندما التفوا من الجانب الخارجي البعيد عن مرمى نيران الثوار أصابتهم الدهشة والمفاجأة عندما وجدوا رجلاً واقفاً كالمارد، ولكنه غير قادر على الحركة بسبب الرصاصات التي اخترقت قدميه ومنعته من المغادرة، ولكنهم لم يجرؤوا على الاقتراب منه، فصرعوه برصاصة جبانة اخترقت رأسه. وبعد مغادرة من تبقى من الحملة أرض المعركة، ووصول الثوار إليه، قرروا دفنه في نفس المكان، وعندما فتشوا جيوبه لم يجدوا غير كسرات بسيطة من خبز الشعير».

الأستاذ "فواز عامر" الذي يقطن في قرية "بريكة" تحدث عما يعرفه عن الراحل بالقول: «مازال قبر هذا الرجل موجوداً في مكانه، وهو يقع في الجنوب الغربي من القرية، ويملكه أحد سكانها، ومازال الناس يعرفون تلك الأرض باسم (كرم ناصيف)، ومنذ ذلك الوقت وحتى اللحظة تتناقل الألسن قصته البطولية، وعلى الرغم من كل الحزن الذي يلفها، والمأساة التي حلت بهذا الفارس، إلا أنه يبقى واحداً من رجالات الثورة السورية الكبرى التي مازالت دروسها حاضرة في الذاكرة إلى الآن».