لم تكن الظروف القاسية والصعبة إلا حافزاً له على الجد والاجتهاد، ففي عام 1950 هكذا كانت ظروف الحياة بشكل عام، فالجميع وبسبب قساوة الحياة منهمك إما في العمل أو الدراسة، وكلاهما يصب في باب تحسين الوضع الاجتماعي والمادي حيث لا وقت للعب أو للتسلية حتى للأطفال، وهذا هو الأمر الذي لا يزال يزعج ذكريات طفولته إلى اليوم.

الدكتور "فايز القنطار" يحمل شهادة الدكتوراه في التربية وعلم النفس، ومن كبار المزارعين في قريته "داما"، موقع eSuweda وأثناء زيارته للقرية التقى الدكتور "فايز" وحدثنا بكثير من الشفافية عن تفاصيل تلك الأيام في الحوار التالي:

  • الذكريات المؤلمة قد لا تنسى.. ما الذكريات المؤلمة التي لا تزال تسكن ذاكرتك؟
  • الدكتور "فايز القنطار" مع أبناء قريته

    ** لا تسكن ذاكرتي إلا الذكريات الجميلة على الرغم من القساوة التي تسبغ بعضها، فأنا من مواليد عام 1950 وفي ذاك الزمان طبيعة الحياة كانت صعبة وقاسية، فكما نحن معتادون العيش الآن، كان أهل ذاك الزمن قد اعتادوا العيش رغم ظروفهم وفقرهم وندرة الخدمات حولهم، كنا مجموعة من الأطفال لا نجتمع لنلعب إلا في الليالي المقمرة وفي ضوء القمر، حيث لم يدرك آباؤنا وحتى المدرسون أهمية اللعب في حياتنا كأطفال، فقد كانوا ينظرون إليه على أنه من الممنوعات، وكان عدد أفراد الأسرة الواحدة كبيراً ويعيشون في غرفة أو غرفتين ولم تتوافر لنا الفرصة الملائمة للدراسة، حيث كان المدرسون يتيحون لنا هذه الفرصة بجمعنا في المدرسة في الليل.

    كنا ندرس الابتدائية في القرية، أما الإعدادية والثانوية فكانت في المدينة، واجهنا صعوبة بالمواصلات حيث كانت وسيلة النقل هي سيارة وحيدة، والطرق غير معبدة، وواجهتنا أيام من الانقطاع التام أيام الثلوج والأحوال الجوية السيئة عن أهلنا، وهذا خلق روح التعاون فيما بيننا نحن الطلاب، مع أن عدداً قليلاً منا استطاع متابعة دراسته، ربما يعود السبب لترك الأسرة في عمر مبكر وغياب التوجيه، إلا أننا حين نجتمع تكون هذه الذكريات حاضرة بيننا، وهناك صعوبة أيضاً في التعامل مع المدرسين في الثانوية، فقد كانوا طلاباً في الجامعة وهذا ما فرض علينا جهداً استثنائياً في الدراسة.

    مدخل مزرعته

  • خضت تجربة العمل والوظيفة في عمر مبكر، كيف أثر هذا الأمر في دراستك؟
  • ** اخترت الدراسة في الثانوية الأدبية لأتمكن من متابعة الدراسة في الجامعة في أحد الفروع التي لا تحتاج لدوام لكي أتمكن من العمل، فقد كنت مسؤولاً عن تعليم إخوتي أيضاً، حصلت على وظيفة عام 1969 في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وكانت هذه الفرصة هي أحد الأسباب التي قربتني من الجامعة وكان لها أثراً ايجابياً على دراستي، وللإرادة والتصميم دور كبير في ذلك، تخرجت في عام 1973 في كلية التربية- قسم علم نفس، وحصلت على المركز الأول على مستوى الجامعة، وبعد التخرج مباشرة حصلت على دبلوم تأهيل تربوي ودبلوم إدارة وتوجيه تربوي، وعيّنت معيداً في الجامعة.

    جانب من المزرعة يظهر بعض ما فيها من أشجار

  • حصلت على بعثة إلى فرنسا للحصول على شهادة الدكتوراه، ولكنك بقيت اثنتي عشرة سنة، ما السبب في ذلك؟
  • ** طلبت منا جامعتنا قبل مغادرتنا القطر طلباً شبه مستحيل، وهو الحصول على دكتوراه دولة حتى نعود لعضوية هيئة التدريس في الجامعة، كانت لغتي بسيطة والدراسة في فرنسا تتطلب لغة ومستوى علمياً متميزاً، درست سنة كاملة في اللغة ثم سنة في تعادل الشهادات أو ما يسمى سنة الترميم، حتى بدأت بمرحلة الماجستير وحصلت على الشهادة بعد عامين، انتهت المنحة وأصبحت أمام موقف حرج، راسلت الجامعة وأخبرتهم بالأمر إلا أن طلبي رفض ووافقوا على تمديد المنحة عاماً واحداً فقط، في الوقت الذي كانت فيه أقصر شهادة دكتوراه دولة تستغرق ست سنوات في كلية العلوم بمدينة "بيزنسون".

    مع أني كنت دون مورد مالي إلا أن الحظ لعب دوراً هاماً في حياتي، عملت بمراكز تربية الأحداث فترة ثم أصبح هناك شاغر في الكلية التي أدرس فيها وتعينت مدرساً مدة أربع سنوات، حصلت على دكتوراه الدولة في عام 1987 وكانت أقصر رسالة دكتوراه بظرف ست سنوات فقط، دعيت بعدها للإقامة العلمية في كندا مدة شهر، وفي عام 1988 عدت إلى سورية وعملت مدرساً في جامعة "دمشق"، وفي عام 1999 سافرت إلى الكويت وعملت فيها أيضاً.

  • لديك العديد من الكتب والمؤلفات في مجال التربية وعلم النفس وبمواضيع متعددة، لنتحدث عنها؟
  • ** أول كتاب كان في عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت وصدر منه أربعون ألف نسخة بعنوان (كتاب الأمومة) يتحدث عن العلاقة بين الأم والطفل، والكتاب الثاني صدر في الكويت أيضاً يتحدث عن سلوك الطفل في المراحل المبكرة من العمر، صدر عن الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، بالإضافة إلى مقررات تدرس في الجامعة، وشاركت بمقررات الجامعة العربية المفتوحة وكنت منسق ومقرر علم نفس النمو الطفولي الذي يدرس ثلاثة فصول.

    لدي العديد من الكتب المشتركة مع الدكتور "مصطفى بصل" بعنوان (علم النفس الصيدلاني)، ومع الدكتور "علي عسكر" كتاب منفرد يتحدث عن (سيكولوجية السلوك الغذائي) يبحث في موضوع الغذاء والتغذية، فعلم النفس ركز على قضية السلوك الإنساني وموضوع الغذاء الذي هو محرك مهم جداً للسلوك التربوي ولمسيرة الإنسان الحضارية، نشرت هذا الكتاب دار العلم بالكويت عام 2005.

    حالياً أعمل على التحضير لبحث بدعم من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن تطور سلوك الطفل من الولادة حتى المراحل المتقدمة، ولم ينته بعد.

  • رغم سفرك المتواصل وعملك في "دمشق" إلا أنك تعد من كبار المزارعين في قريتك "داما" وتملك أكبر مزرعة فيها، لنتحدث عنها ومتى تأسست وما الوقت الذي تخصصه لها؟
  • ** فكرة المزرعة بدأت منذ أيام الدراسة في الجامعة، فأنا أعشق الشجرة وأشعر بأنها رباط يربطني بالمكان مهما بعدت ستعيدني هي إليه، غرست مئة زيتونة في أحد كرومنا وكان من أوائل الكروم التي زرعت في القرية في ذاك الوقت، وفي كل عام كنت أغرس أعداداً جديدة من الشجر حتى امتلأت أرضي بمساحة خمسة عشر دونماً بالأشجار المثمرة والحراجية، أحببت من خلال غرس الأشجار الحراجية المساهمة في تنقية وترطيب الجو، فمنطقتنا تعد من المناطق الجافة وللشجرة دور بارز في تعديل مناخها، حتى في أيام سفري فأنا أتابع أمور المزرعة وهناك من يعمل ويسكن فيها، فيها شبكة ري بالتنقيط والاهتمام متواصل بأشجارها وبتقليمها وحراثتها، لم أكتف بتلك المساحة فقد قمت بشراء أرض جديدة فيما بعد وتابعت غرس الأشجار التي امتدت حزاماً أخضر حول القرية بمساحة إجمالية تقدر بتسعين دونماً، منها خمسين دونماً مزروعة بأشجار الزيتون فقط، وهناك الكثير من الأشجار المثمرة والحراجية، زارني أحد أصدقائي من فرنسا، وعندما رأى المزرعة قال لي: "أنا متأكد أنك عندما تنتهي من زراعة أرضك كاملة ستغرس أرض الجيران أيضاً" فمشروعي لم أقصد به الاستثمار بقدر ما أردته تربوياً بالدرجة الأولى، أحب قضاء وقت فراغي وأوقات راحتي هنا حيث الهواء النقي بنسيني تعب السنين كلها، فأنا أذكر من طفولتي منطقة "اللجاة" كيف كانت خضراء قبل تعرضها للإبادة والرعي الجائر وزحف التصحر، الآن أعلنت محمية طبيعية وستعود الحياة إليها قريباً، فليكن لنا دور أيضاً في هذا الأمر بما أن قريتنا تقع في قلب "اللجاة".